مقالات الرأى

راندا الهادي تكتب: مدير مغفل أم متغافل؟!

يَحْكِي أحدُهم أنه عندما كان مديرًا لإحدى الشركات الخاصة، كان لديه موظفٌ متميز ومجتهد، يُعول عليه في إتمام المهام الصعبة، إلا أنه غيرُ ملتزم _ بعضَ الشيء _، قد يأتي أحيانًا إلى العمل متأخرًا، أو يغادر العمل مبكرًا لأسبابٍ مُفبركة.

وفي أحد الأيام دخل مكتبي _ هنا يتحدث المدير _ طالبًا إجازة لعدة أيام، وعندما سألتُه عن السبب أجاب: لسفره مع أصدقائه في رحلة، وكأي مدير لا يعي أهميةَ التغافل في مواقفَ محددة، رفضتُ طلبَه، مُتعللًا بأن حاجة العمل لا تسمح، وأنا أعلم أنها تسمح!

في اليوم الثاني، وجدتُ على مكتبي ورقةً بإجازة مرضية مقدمة منه، وللمرة الثانية، أردتُ أن أُثبت للجميع حصافتي، وأنني لستُ مُغفلًا، هل تعلمون ماذا فعلتُ؟! – الحديث لا يزال لمدير الشركة -، ذهبتُ إلى منزل الموظف على الفور لأجده يُعِدُّ تجهيزاتِ السفر ويضعُها بسيارته، وعندما رآني، أمطرتُه بوابل من الاتهامات بالكذب والإهمال في حق الشركة، _ ناسيًا أنني من أجبرتُه على ذلك بسبب رفضي للإجازة من البداية _ وانتهى الموقف بدون أي رد فعل من جانبه.

أتعلمون ماذا حدث؟ قدّمَ استقالتَه في اليوم التالي، تاركًا الشركة!

هنا أدركتُ أنني مديرٌ مُغَفَّل كان عليه التغافل! ماذا لو سمحتُ له بالسفر، وتجاوزتُ غروري وصلفي لإحراجه أمام نفسه وأمامي؟! ماذا لو تغافلتُ ورجحتُ كِفَّةَ تميزه واجتهاده ومراعاة ظروفه واحتياجاته؟! ماذا لو أدركتُ أن الإدارة هي مهارةُ التعامل في كل موقف بما يخدم مصالحَ العاملين به قبل المكان؛ فهم سبب نجاح المكان ولولاهم ما قامت له قائمة؟! لقد تعلمتُ درسًا مُهما، ألا وهو أن تكونوا متغافلين، خاصة مع الكوادر المميزة التي من الصعب تعويضها، وإياكم والاعتقاد أنكم بهذا التغافل قد أصبحتم مُغفلين في نظر موظفيكم، بل في الحقيقة أنتم تَزيدون من انتمائهم للمكان، وإخلاصهم للعمل، ومصداقيتهم في التعامل مع الإدارة، ولعل إشارةً لطيفة تستطيعون بها لفتَ انتباههم لإدراككم حقيقةَ الأمر تكفي، وإلا لن تجدوا حولكم سوى قوالبَ تُلبي الأوامر، وتروسٍ تَفتقر للإبداع!!

إلى هنا انتهت قصةُ صديقنا المدير الذي أراد لفت انتباهنا لأهمية التغافل، وإيصال رسالة لكل ربِّ عمل أو مدير في مجاله مفادها: أن المتغافلَ شخصٌ كريمُ الطباع، يتغافل عن الخطأ رغم علمِه به تكرمًا وترفُّعًا وحِنكة لا يملكها الكثيرون.

قال الحسن البصري في الأثر: ( ما زال التغافل من فِعل الكرام )، أما ابنُ الجوزي _ رحمه الله _ فقال: ( إن الناس مجبولون على الزَّلات والأخطاء، فإن اهتم المرءُ بكل زلةٍ وخطيئة، تَعِبَ وأتعَبَ غيرَه، والعاقلُ الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة ).
ولا أجد هنا ختامًا أجمل من قول الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله _: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل).

زر الذهاب إلى الأعلى