مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : ما أشبه الليلة بالبارحة..اعتقال بوتين وبوش براءة

يسترجع المرء القول المأثور “ما أشبه الليلة بالبارحة” عندما نفاجأ بحدث الآن مشابه لآخر تم في الماضي، ولكننا وفي مقامنا هذا كنا نود أن نقتبس نفس القول على ما نشاهده في أيامنا هذه..والحكاية أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاشتباه في ترحيل أطفال ونقل أشخاص دون سند قانوني من أوكرانيا إلي روسيا منذ بدء الحرب بين الدولتين في 24 فبراير 2022. وطبيعي أن يسارع الرئيس الأمريكي جو بايدن بتأييد قرار المحكمة الدولية، ويزيد الطين بلة قائلا “أنه ارتكب جرائم” في إشارة الى الرئيس الروسي، وزاد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن بلاده خلصت إلى نتيجة مؤدها أن القوات الروسية ارتكبت جرائم حرب في أوكرانيا.

قرار “الجنائية” بملاحقة بوتين بـمذكرة اعتقال ورفضها من قبل موسكو أمر طبيعي ومعتاد في مثل هذه الأمور الدولية، علما بأن المحكمة الدولية ليس لها ولاية قضائية على روسيا لأنها غير عضو بها، ولكن ما يهمنا في الموضوع، هو ازدواجية معايير هذه المحكمة التي تدعي إنها “دولية” أي أنها خاضعة لسلطة المجتمع الدولي ككل وتقف على الحياد تماما بين بلدانه..ولكن قرار المحكمة سالف الذكر غير عادل إذا استرجعنا مجازر الجيش الأمريكي في العراق، وإذا ما تذكرنا هذا الغزو الذي مر الذكري العشرين له قبل أيام، فيجب أن تصدر “الجنائية” قرارا مماثلا بملاحقة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني الذي اعترف بمناسبة ذكري الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق أنه الآن لا يصدق تقارير تلقاها من أجهزة مخابراته بوجود آثار مفاعلات نووية بالعراق عشية الحرب المشئومة. وليس سرا أن مصداقية الولايات المتحدة قد تلقت ضربة قوية جراء قرار بوش بالغزو بناء على معلومات استخباراتية تبين في نهاية المطاف أنها زائفة ومبالغ فيها وخاطئة بشأن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.

وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا كتب على “تويتر”: “عجلة العدالة تدور: أشيد بقرار المحكمة الجنائية الدولية”، وكان حري به وهو يكتب هذه الكلمات القليلة أن يتذكر أيضا ما مذابح ومجازر القوات الأمريكية والبريطانية في العراق على مدى سنوات الحرب المدمرة التي قضت على بلاد الرافدين. فالقوات الغاشمة غزت العراق بحجة تدمير البنية التحتية لأسلحة الدمار الشامل العراقية، ولكن النية الحقيقية كانت القضاء على العراق بأكمله.

ليس في مقدورنا أنه بعد 20 عاما على الحرب الأمريكية والبريطانية على العراق، سوي القول إن هذا الغزو البشع كان خطأ استراتيجيا، لم تتراجع عنه الدول الغازية، فالولايات المتحدة وحلفاؤها شنت الحرب على العراق بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين، ثم فشلت في إدارة الفترة الانتقالية وتسببت في أن تكون لإيران اليد الطولى في العراق وأن يكون القرار العراقي رهينة بيد طهران على طول الخط باستثناء ربما فترة رئيس الوزراء السابق مصطفي الكاظمي.

الرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي فلت من قرار المحكمة الجنائية الدولية ، أصدر في 20 مارس 2003 قرارا بالإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالقوة، ثم جاء خلفه باراك أوباما ليقلص أعداد القوات الأمريكية، الذي أدى إلى اندلاع الصراع الطائفي، ثم يأتي قرار الانسحاب الأمريكي في نهاية المطاف عام 2011، ليؤدي الى تعقيد أوضاع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث ترك انسحاب تلك القوات من العراق فراغا ملأه تنظيم “داعش” الذي استولى على ما يقرب من ثلث العراق وسوريا ، وكاد يسيطر علي الدولتين بالكامل وبعض أجزاء من دول أخري حيث تمدد في إفريقيا. وأدي الغزو الأمريكي من بين مآلاته الى نهاية حكم الأقلية السنية بزعامة صدام حسين واستبداله بحكومة أغلبية شيعية في العراق أطلقت العنان لإيران لتعميق نفوذها في العراق وسوريا.

لعل من دوافعنا للحكمة الجنائية بضرورة إصدار قرار بملاحقة جورج بوش الابن، هو فشل القوات الأمريكية في تأمين العراق وإحكام السيطرة الأمنية مما سمح بحدوث فوضى أدت إلى ظهور “داعش”. وثمة من يربط بين الغزو الأمريكي للعراق ووصفه بالخطأ الإستراتيجي مثل غزو الطاغية الألماني أدولف هتلر للاتحاد السوفيتي في 1941 وهو ما انتهى بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

الرئيس جورج دبليو بوش الذي أعلن أن مسئولية بلاده تجاه التاريخ أصبحت تخليص العالم من الشر”، فشل في تخليص العالم من الشر، بل ساهم أكثر في دعم شرور الإرهاب الدولي.

ربما يقول قائل إن الغزو الأمريكي للعراق كان درسا أو رسالة للدول المارقة في العالم، في إشارة مباشرة الي إيران وكوريا الشمالية وربما سوريا وقتها، ولكن المؤكد أن الرسالة فشلت لأنها لم تحقق هدفها، لأن الحرب الأمريكية فشلت في تحويل العراق الي جنة الله في أرضه، ولم يتحول الى دولة ديمقراطية إلا بعد سنوات من المعاناة، ولكن المؤكد أن العراق كان مرتعا للجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، ومن قلبه انتقل التنظيمين الي مناطق أخري ليهددا العالم بآثره. ومعلوم أنه بعد وقت قصير من الغزو الأمريكي للعراق، اقترح المستشار العسكري الأمريكي ريتشارد بيرل ضرورة إيصال رسالة مقتضبة إلى النظم العدائية الأخرى في المنطقة مفادها: “الدور عليكم”. ولكن النتيجة أن مصلحة إيران وكوريا الشمالية تلاقت في العمل معا عن قرب.

لقد أثارت الحرب على العراق تساؤلات حول استعداد واشنطن للعمل بمفردها والتعويل عليها كشريك، والمؤكد أن رؤية دول المنطقة لم تعد تثق في الشراكة مع واشنطن، بدليل لجوء السعودية وإيران الى الوساطة الصينية في الاتفاق على تطبيع العلاقات، كما لجأت السعودية الى روسيا وتقاربت معها دبلوماسيا وعكسريا، ما يدل على الفوضى الأمريكية في إدارة الملفات الدولية والمنطقة تحديدا.

بعد عشرين من الحرب الأمريكية على العراق، كشفت هذه أخطاء جسيمة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، ناهيك عن تراجع المصداقية الأمريكية في الشرق الأوسط

والتساؤل: هل تعلم الأمريكيون من الدرس؟ ..

والتساؤل الأخير: هل تقرر المحكمة الجنائية الدولية اعتقال جورج بوش مثلما قررت ملاحقة فلاديمير بوتين. الأول قتل وشرد الملايين ودمر بدلا كاملا، والثاني رحل بضعة أطفال من أوكرانيا الى روسيا!

نتمني.

زر الذهاب إلى الأعلى