احمد محمد صلاح يكتب :تكوين العقل المصري(٢)

ليست المسالة بالسهلة كما اسلفت في المقال السابق، وكلما تعمقت في القراءة وجدت انني امام بحر ذاخر من الفرضيات والنظريات العلمية من كبار الباحثين والكتاب، كلهم يدلي بدلوه في هذا الأمر، اي تكوين العقل المصري والاختلافات وغيرها
المسالة تدخل في بعض الأحيان في نطاق الثقافة، الثقافة بنطاقاتها المختلفة من شعبي ومادي وعمراني، ولابد وأن نقسم الثقافة المصرية الي نطاقات جغرافية وكذلك نطاقات زمنية، فما كان في القرن التاسع عشر في الصعيد مثلا، غير ما كان في نفس المنطقة من صعيد مصر في القرن العشرين، او الآن .
ولكن في المجمل …. فان العقل المصري مر بتغييرات كثيرة ، بعضها كان عنيفا، والبعض الأخر كان ناعما هادئا، في العملية العنيفة كانت الثقافة المصرية تتاثر بسبب الغزو والاحتلال، وكما اسلفت ان المصري كان يستطيع أن يهضم ويستوعب الثقافات الجديدة القادمة اليه ، اما التغيير في الثقافة الناشئ عن العمليات الناعمة والهادئة، فهي عمليات تغيير الثقافة من خلال الاستراتيجية الطويلة والتي تكون في الأغلب موجهه، وتستخدم فيها العديد من الأسلحة الغير منظوره وعلي راسها وسائل الاعم المختلفة.
يقول الأستاذ محمد شفيق غربال في كتابه تكوين مصر : إن التفاعل الحادث بين المبدأين المتقابلين — مبدأ الاستمرار ومبدأ التغيير — يكون مادة التاريخ، فما يبدو في التاريخ مستمرًّا لا يخلو أبدًا من تغيير خفي دقيق، وما من انقلابٍ — مهما كان فجائيًّا، ومهما كان عنيفًا — استطاع أنْ يقطع تمامًا صلة الاستمرار بين الماضي والحاضر.» هذه فقرة مقتبسة من بحث للأستاذ «كار» في تقدير صلة الثورة الروسية بالتاريخ الروسي.
ان ذلك ينطبق تماما علي ما فرضناه سابقا حول التغيرات الفجائية العنيفة وبين التغيرات الهادئة الناعمة في التاريخ والتي تؤدي بالضرورة الي تغييرات في الثقافة الجمعية والشعبية كذلك
ولنعود الي كلمات محمد شفيق غربال فنجده يقول
فماذا يكون حال النواة المصرية بإزاء المؤثرات المادية والأدبية الجديدة؟
وقبل أنْ نحاول الإجابة على هذا السؤال يجب أنْ نلاحظ حقيقة طريفة، هي أنَّ ما لدينا من معلوماتٍ عن حال مصر وموقف مصر إنما مصدرها جانب واحد، جانب أجنبي، فإن الإغريق واليهود، ومن إليهم من الغرباء، هم الذين رووا عن المصريين ما رووا، وهذا — في رأيي حقيقة — يجدر بنا أنْ نضعها موضع الاعتبار، وكانت الصورة التي رسموها صورة شعب متجهم عبوس عنيد محافظ، يكره كل ما هو غريب عنه.
ولكن أكان هؤلاء الإغريق وهؤلاء اليهود حقًّا أقلَّ انطواءً على أنفسهم؟
لقد نظر الأقدمون جميعًا إلى كل شيء، بعين العصبية القومية، بل كان لكل قوم ربهم، الذي لا همَّ له إلَّا رعايتهم وتدليلهم، وماذا كان في استطاعة المصريين أنْ يفعلوه مع شعب الله المصطفى!
ترى كم من الناس مرَّ في خاطره ذلك الحلم الذي داعب خيال «الإسكندر الأكبر» وحدا به إلى رؤيا عالم روحه الوئام، أو الإنسانية المنبثقة من أخوة بني الإنسان، وعلى كل حال فإن المصريين تعلقوا بالإسكندر، وضموه إلى أنفسهم، بيد أنَّ خلفاء «الإسكندر» في مصر لم يثرهم شيءٌ من ذلك الحلم الجميل، ولم يفعلوا شيئًا لكي تتفاعل الروح المصرية بالروح الهيلينية، بل الأصح أنهم كرهوا هذا، وعملوا ضده.
فلا نعجب إذن إذا وجدنا عهد البطالمة عهد تهجين، وعهد استغلال نافذ شامل، وعهد كراهية، وحرب بين الأجناس، ونصل — على هذا النحو — إلى حقبةٍ من التاريخ، لا تفيد الحكومة فيها إلا معنى واحدًا هو كونها المالك الكبير …
وخلف الرومان البطالمة، وساروا بمنهج سابقيهم إلى أبعد مدى يستطيعونه، فلا عجب أنْ صار المصريون أكثر تجهمًا، وأكثر عنادًا وصلابة.
وجاءت المسيحية فخلصت الروح المصرية مما شابها من قتام وعبوس وصلابة، بيد أنَّ اعتناق المصريين المسيحية، ثم الإسلام بعد ذلك، حدث في عالم مصري منشق على نفسه، ولقد تحرر الإنسان حقًّا بفضل المسيحية والإسلام التحرر الحقيقي من رق الخرافة والعبودية لغير الخالق، وتحرر الشعب من رق المقدونيين والرومان. ومع ذلك فإن الفرد المتحرر لم ينل الحرية التي تتيح له فرص اكتمال شخصيته، فقد بقي التمييز والتفرقة ما بين الحاكم والمحكوم قائمًا، وحال ذلك دون تمتع الفرد بنصيبه الكامل من الجزاء والمسئولية، ولكن التحرر الذي أتى بفضل الديانتين الجديدتين — المسيحية والإسلام — كان تحررًا لا شك فيه ولا ريب. فلنتأمل مثلًا مصر المسيحية تخلق فنًّا جديدًا، وتقيم كنيسة قومية، وتصنع لنفسها أداة لغوية جديدة، ولنتأمل عمق حياتها الدينية وتنوعها، ولكنها — مع ذلك — شقيت بالنزاع مع «بيزنطة»، وقد كان هذا النزاع مبعث كثير من العداوة والجدب الفكري، والدمار الذي حل بالعصور البيزنطية المتأخرة.
وبدخول القوم في الإسلام اتسع الأفق المصري، وامتد إلى محيط دار الإسلام. وما ثقافة مصر — في عهد الإسلام — إلَّا الثقافة الإسلامية معدلة، لتلائم ظروف مصر، وهنا حدث فعلًا تكافؤ بين الاستمرار وبين التغير، ولم نشهد رجحان كفة مبدأ التغير إلا عند استهلال القرن التاسع عشر، وبدء الاتصال بالغرب.
وبعد، فماذا نقول بعد أنْ لازمنا نواة الحضارة المصرية خلال عصور التطور والتبدل المتعاقبة، نقول: إننا نستطيع أنْ نقدر مدى تأثر عقل المصري وإرادته. ولكن، ما الحكم على رفيق العقل والإرادة المستقر في أعماق النفس؟
سؤالٌ ليس له من مجيب.
آثرت ان اقتبس هذه الفقرات الطويلة من كتاب ” محمد شفيق غربال” حيث يعطي طرحا فكريا قويا حول من كتب تاريخ مصر في العصور القديمة؟ واعتقد لهذا بحثا او مقال آخر، ولكنه يعطي مصادر التنوع في خلق الثقافة المصرية والعقل المصري، بتتبع فترات الصدمات الحضارية والثقافية ، حتي يصل الي الحقبة الاسلامية .
لابد وان نقول ان الحقبة الاسلامية في مصر ايضا مرت بفترات، كان اصعبها فترة الغزو العثماني حيث تم تجريف وتفريغ الثقافة المصرية كاملة، بعد ان منع كل شئ تقريبا في العلوم الا العلوم الشرعية، واعتبارعلوم الفلك والكيمياء كفر، كذلك تجريف الابداع المصري بارسال كل العمال والصناع المصري الي دولة بني عثمان .
ولكن في القرن التاسع عشر كان الأمر مختلفا كلية
وللحديث بقية