مختار محموديكتب: المشاهد المخفية من حياة هؤلاء!
إنما الأعمال بالخواتيم. ومهمٌ جدًا أن نعرف كيف انتهت حياة أكابر المثقفين والمفكرين والفلاسفة والعقلانيين؛ لأن فيها الدرس والعظة والعبرة، كما إن تلك الخاتمة تكون نتاج تقلبات وتحولات فكرية جسيمة، وحصيلة اجتهادات وقراءات غزيرة؛ ومن ثمَّ فإن الوقوف عنده وتدبرها حق التدبر منفعة عظيمة، وفائدة لا غنى عنها.
وفي هذا المقال نُلقي إطلالة سريعة على المرحلة الأخيرة في حياة أربعة أسماء بارزة في الفكر والثقافة والفلسفة، أثاروا جدلاً عارمًا وصخبًا كبيرًا في بواكير حياتهم؛ خاصة في ظل حالة التعمية التي يتعمد البعض إضفاءها على هذه الفترة؛ لأغراض خبيثة تكمن في أنفسهم الأمَّارة بكل سوء نحو الإسلام، ولو كان هؤلاء منصفين لما أخفوا هذه الجوانب الكاشفة؛ لأنها هي الأهم والأبقى والأصدق.
رغم حالة الصخب التي رافقت بداياته الفكرية، وارتباط اسمه بالصدام مع الإسلام من خلال كتابات مثيرة للجدل، وضعته ضمن المُعادين للدين الخاتم، إلا إنَّ المرحلة الأخيرة من حياة الدكتور طه حسين 1889-1973 شهدت تحولاً جذريًا، إذ ولَّى صاحب كتاب “في الشعر الجاهلي” قلبه ووجدانه شطر الإسلام بشكل كامل. تتجسد أهم ملامح هذه المرحلة في أن عميد الأدب العربي أكد على «حاكمية القرآن الكريم» وانحيازه إلى العروبة التي صاغها الإسلام بعيدًا عن الفرعونية التي تبناها من قبل.
يعتبر كتاب «في مرآة الإسلام» الذي صدر العام 1958 تجسيدًا للإياب العقلي والفكري الذي ختمه طه حسين في العام 1960 بتأليف كتاب «الشيخان» عن: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكشف في هذا الكتاب عن ألوان من إعجاز النظم القرآني، وأن مصادر التشريع هي القرآن والسُّنة والإجماع والاجتهاد، وشدد على القرآن الكريم دين وشرع، يشرّع للمسلمين ما ينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة، وأن الاسلام أقام أمة سياسية، مصدر السياسة فيها هو الإسلام، كما أقام دولة، قانونها: القرآن الكريم، بحسب كتاب: “طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام” للدكتور محمد عمارة.
وقبيل وفاته في 28 أكتوبر 1973، أوصى صاحب كتاب: “مستقبل الثقافة في مصر” –الذي حرص على أداء فريضة الحج- بأن يُحفر على قبره هذا الدعاء النبوي الذي كان يردده دائمًا في خواتيم حياته: “اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، لك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت».
ورغم انحيازه الكامل للفلسفة الوجودية والفكر الغربي في مُستهل حياته الفكرية، غير أن المرحلة الأخيرة في حياة الدكتور زكي نجيب محمود 1905-1993 شهدت عودته إلى التراث العربى قارئًا ومُنقِّبًا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثًا عن سِمات الهوية العربية التى تجمعُ بين الشرق والغرب، وبين الحدس والعقل، وبين الروح والمادة، وبين القِيم والعِلم.
فى هذه المرحلة، التى تُعتبرُ الأهمَّ والأبرزَ فى مسيرته العلمية والفكرية..رأى صاحبُ كتاب «الفلسفة الوضعية» أنَّ تركَ التراث كله هو انتحارٌ حضارىٌّ؛ لأنَّ «التراث به لغتُنا وآدابُنا وقيمُنا وجهودُ علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا»، كما كان يتمنى «ألا نعيشَ عالةً على غيرنا»، وإنما نشاركُ فى هذا العالم بـ«الأخذ والهضم والتمثيل ثم إعادة إفراز ما أخذناه، مثلما فعل المسلمون حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية، وهضموها ثم أفرزوها وزادوا عليها زياداتٍ مُهمة».
كان فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة يرى فى سيرته الأولى أن النموذج الكامل للحضارة هو النموذجُ الأوروبى والغربي، ثم تراجعَ عن هذا فى مرحلته الثانية، ورأى أن هذا النموذج للحضارة الغربية هو نموذجٌ يسيرٌ على قدمٍ واحدةٍ، فهى حضارة عرجاءُ غيرُ كاملة؛ لأنها تهتم بالعلم والعالم، وتنسى الإنسان بما يملك من وجدان وثقافة ودين، ونادى بالجمع بين الدين والعلم معًا كطرفين متلازمين لصنع الحضارة، فإذا استطاع الإنسان العربى المسلم المعاصر أن يجمع بين العلم والدين، وبين العقل والقلب، وبين الجسد والوجدان، وبين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة؛ فقد حقق الحضارة الكاملة، وصار إنسانًا ناضجًا متكاملاً.
خلُصَ الدكتور زكي نجيب محمود فى خواتيم حياته إلا أن أفكاره التى اعتنقها فى ريعان شبابه بشأن الإسلام لم تكن صائبة، فارتدَّ عنها وتراجع غير خجلان، ولم يكابر مثل غيره، بل وانقلب على تلك الأفكار ونسخها بنقائضها، وهذا ما نلمسه فى كتابه الأخير: «دفاع عن الإسلام ضد منتقديه»، وفيه أجاد الجمع والاستقصاء والتأريخ لعدد من الانتقادات والاعتراضات على القرآن الكريم، وحدد أسبابها بوضوح، وفصَّل فى إبطالها ثلاثةَ عشرَ فصلاً، بلغةٍ يفهمها المقصودون بتأليفه، ويقتنع بها عقلاؤهم.
وإذا كان اسم الدكتور عبدالرحمن بدوى 1917-2002 ارتبط لفترة طويلة فى الثقافة العربية بالفلسفة الوجودية، فإنَّ كثيرين ممن لا يعلمون قدر الرجل اتخذوا من هذا الارتباط توطئة للهجوم عليه ورميه بأقذع التهم، خصوصا أن للفلسفة الوجودية عندهم وجهًا إلحاديًا. الفترة الأخيرة من الإنتاج الفكرى والفلسفى للدكتور عبدالرحمن بدوى، خصصها كلها تقريبًا للدفاع عن الإسلام ضد الحملات المغرضة والمسعورة فى الغرب، وقد صدر أول كتاب فى هذه المرحلة العام 1989 بعنوان: «الدفاع عن القرآن ضد منتقديه»، وفيه قال: «القرآن، وكونه الأساس الجوهرى للإسلام كان هدفًا رئيسيًا لهجوم كل من كتب ضده فى الشرق مثلما فى الغرب وذلك منذ النصف الثانى للقرن الأول الهجرى – السابع الميلادى وحتى الآن»، مردفًا: «من أجل ذلك.. تصدينا فى كتابنا هذا لفضح هذه الجرأة الجهولة عند هؤلاء المستشرقين حول القرآن، وأستطيع أن ألخص سبب التردى الذى وقع فيه هؤلاء المستشرقون بـ: جهلهم باللغة العربية، وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية، وسيطرة الحقد على الإسلام الذى ورثوه ورضعوه منذ طفولتهم على عقولهم وتسببه فى عمى بصيرتهم، ونقل المستشرقين للأكاذيب حول القرآن والإسلام. بعضهم عن بعض وتأكيدهم لها»، مختتمًا مقدمة كتابه بقوله: «هدفنا كشف القناع عن العلماء الكاذبين الذين قدموا الضلال والتزوير لشعب أوروبا ولغيره من الشعوب، وبإبراز الحقيقة الواضحة يحرز القرآن النصر على منتقديه».
المفكر الكبير الراحل الدكتور سعيد اللاوندى كان قريبًا من «بدوى»، حيث احتفى به وبمؤلفاته فكتب يومًا: «هناك تناقض بيّن يلحظه الدارسون لفكر عبدالرحمن بدوى، وهو أنه بدأ حياته وجوديًا يروّج للفكر الوجودى فى الشرق عبر مؤلفاته وترجماته الكثيرة، ثم انتهى فى أخريات أيامه مدافعًا عن الإسلام ونبيه الكريم عبر كتابين نالا شهرة ذائعة وتُرجما لعدة لغات. الكتاب الأول: دفاع عن محمد «صلى الله عليه وسلم» ضد منتقديه، والثانى: دفاعه عن القرآن ضد الطاعنين فيه. واصل عبدالرحمن بدوى نضالاته على الجانبين حتى وصل إلى كتاباته الدفاعية عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام، وكتاباته الأخرى التى حاكم فيها عشرة من المستشرقين الذين تناولوا قضايا الإسلام وثقافته وحضارته، وقد ساعد بدوى على القيام بهذه المهمة الصعبة إتقانه التام عددًا من اللغات، أهمها: اللاتينية واليونانية، فضلًا عن: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية.. بحسب «اللاوندى» الذى استطرد: «وصل بدوى إلى حد الاستغراق بأوضاع الإسلام والمسلمين فى العالم،
ورغم ما رافق رواياته وأفلامه من تفسيرات وتأويلات صادمة إلا أن نجيب محفوظ 1911-2006 تخلى عن كل أفكاره القديمة في خواتيم حياته، وانتهى به الأمر تائبًا منيبًا لله تعالى.
في كتابه: “متنبي الرواية نجيب محفوظ..آليات التشكيل الفني في رواياته” الصادر حديثًا..يرصد الأستاذ بكلية الآداب- جامعة طنطا الدكتور حلمي القاعود جانبًا من الارتباط الروحي لـ”أديب نوبل” -الذي حلَّت ذكرى وفاته السابعة عشرة- الأسبوع الماضي نحو الإسلام.
يلتقط الكتابُ الكلمة الجامعة المانعة التي كتبها نجيب محفوظ، وألقاها نيابة عنه محمد سلماوي، يوم استلامه جائزة نوبل في الآداب العام 1988، منوهًا إلى أنها كانت متخمة بالإشارات الإيجابية بحق الحضارة الإسلامية وفضلها على ما سواها، وكان مما قاله:” لن أحدثكم عن حضارة الإسلام ودعوتها لإقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق، تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا، ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر، فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكنى سأقدمها فى موقف درامى مؤثر، يلخص سمة من أبرز سماتها، ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد، وهى شهادة قيمة للروح الإنسانية فى طموحها إلى العلم والمعرفة، رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا، والمطلوب ثمرة حضارة وثنية”.
وينوِّه الكتاب إلى أن نجيب محفوظ كان حريصًا طول الوقت على نفي عداء روايته الأشهر: “أولاد حارتنا” للإسلام، وتأكيد علاقته بالقرآن الكريم، وقراءته له ولتفاسيره، وتأثره بقصصه، وحبه لتلاوة كبار القراء فى زمانه، ومواظبته على الصلاة، فضلاً عن بنائه مسجدًا فخيمًا على نفقته الخاصة، وتنظيم رواتب شهرية للقائمين عليه ومحفظي القرآن الكريم به..وصدق الله العظيم إذ يقول: “فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ”.