حازم البهواشي يكتب: (سعد بن الربيع الأنصاري)
حين أردتُ أن أكتب عن هذا الصحابي الجليل، انطلقتُ من موقفين ظلا عالقين في ذهني سنواتٍ طوالًا،
الأول: موقفه حين آخى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بينه وبين (عبد الرحمن بن عوف) فإن النُّبل ورضا النفس الذي جعل (سعدًا) يَعْرِضُ على (عبد الرحمن) نصفَ مالِه، لم يكن ليُقابله إلا ما فعله (عبد الرحمن) من شكرٍ لصاحب المبادرة، ودعاءٍ له بالبركة، وسؤالٍ عن السوق ليبدأ حياته العملية مرةً أخرى!! ولعمري إن ذلك لمِن دلائلِ النبوة؛ فرسول الله آخى بين متشابهَين في الصفات، فإن عُكِس الأمر، لرأيتَ ( عبد الرحمن ) يتصرف كـ ( سعد )، و ( سعدًا ) يتصرف كـ ( عبد الرحمن )!!
أما الموقف الثاني، فكان في ساحة معركة أُحد يومَ استُشهد، فإن المرءَ وهو في الرمق الأخير يكون حديثُه عن ذريته، خاصةً إذا كانت من البنات، وعن زوجه، يوصي بهن، ويلتاع لفراقهن، ويَحْمِلُ هَمَّهُنَّ، ومَن سيكون سندًا لهن بعد وفاته؟! غيرَ أن (سعد بن الربيع) لم يكن كغيره؛ إذ كان في رَمَقِه الأخير مشغولاً بمصير رسول الله، الذي أصبح أحبَّ إليه من نفسه وماله وذريته!!
تأمل معي ما حدث في اللحظات الأخيرة يوم أُحُد في العام الثالث للهجرة:
(بَعَثَ النَّبِيُّ مَن يَسْألُ عَن (سعد بن الربيع الأنصاري) فِي سَاحَةِ المَعركةِ، فجَعلَ يَطُوفُ بَيْنَ القَتْلَى حَتَّى وَجَدَهُ وَهُوَ بآخِرِ رَمَقٍ، وفِيه سَبْعُونَ ضَرْبَة !!
فقالَ: يا سعدُ، إنَّ رسولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقْرَأُ عليكَ السلامَ، ويقولُ لكَ: أخْبرني، كيفَ تَجِدُكَ؟
فقال: وَعَلَى رسولِ اللهِ الصلاةُ والسلامُ،
قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، جَزاكَ اللهُ عنَّا خيرَ مَا جَزَى نبيًّا عَن أمَّتِه،
وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (أي وصل إليه المشركون) وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِف!! وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِن وقتِه).
في مثل هذه اللحظة هل يمكنك أن تفكر كـ (سعد) وأن تُوصِيَ كـ (سعد)؟! فلتُقِرّ إذن بعظمة (سعد) !!
(سعد بن الربيع) كان من قبيلة الخزرج، شهِد في العام الثالث عشر من البَعثة النبوية بَيعةَ العقبة الثانية التي غيَّرت مِن وجه الأرض؛ إذ كانت إحدى مُقدماتِ الهجرة النبوية، وهو أحدُ نقباء الأنصار، إذ قال رسولُ الله وقت البيعة: أخرِجُوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم ( أي ليكونوا مسؤولين عن كل الأنصار )، وهو تنظيم إداري للتعامل، فأخرجوا تسعةً من الخزرج منهم (سعد بن الربيع) وثلاثةً من الأوس. كان الأنصارُ ثلاثةً وسبعين، خرج منهم اثنا عشر، يكون معهم التعامل وإليهم المرجع عند المشكلات، لم يفرضهم رسولُ الله، بل ترك لقومهم حريةَ انتخابهم أو انتقائهم، رغم أنه كان معه اثنا عشر في بيعة العقبة الأولى، وكان من الممكن أن يُوكِلَ اختيارَهم إلى (مصعب بن عمير) _ أولِ سفيرٍ له إلى المدينة _!! لاحظ أنهم لا بد وأن يكونوا جلسوا فيما بينهم ليختاروا، وقد كانوا من قبيلتي الأوس والخزرج المتقاتلين منذ زمن ليس ببعيد!!
بقي أن أشير إلى أنه بسبب ابنتي (سعد بن الربيع) نزلت آياتُ الميراث، وبعث رسولُ الله إلى عَمِّ البنتين ليُعطيَهما ثلثي ما ترك (سعد)، ولزوجته الثمن، وله الباقي، وهي المسألة التي يعرفها العلماء حتى الآن _ إن جاء مثلها _ بمسألة (سعد بن الربيع). فاللهم صلِّ وسلِّم على صاحبِ المدرسة التي تخرج فيها أمثالُ (سعد بن الربيع).