مايسة السلكاوى تكتب: فن صناعة النسيج
الغزل والنسيج من الفنون التراثية التى توارثتها الأجيال على مر العصور ، فهى الصناعة الأشهرفى مصر منذ قديم الزمان .
استخدم المصريون القدماء النباتات ذات الألياف الخشنة فى صنع المنسوجات والإحتياجات اليومية أهمها الكتان والياف النخيل والحلفا ، وبرعوا فى صناعة الأقمشة والملابس من الكتان مستخدمين الصبغات النباتية فى تلوينها وتثبيتها بالشبة ‘ حتى بلغت من الدقة والإتقان يصعب الوصول إليه الآن رغم التقدم الكبير الذى احدثه التطور الآلي .
وفى الزمن البعيد أتقن أهل “تنيس” – إحدى بوابات مصر الشرقية وهى بالقرب من الفرما وبحيرة المنزلة – ، صناعة المنسوجات والملابس فكانوا هم فقط من يستطيع حياكة ثوب من الكتان الخالص بجودة عالية ويقال انهم صنعوا للخليفة ثوبا من عرض واحد من خيوط الذهب مخلوط بقليل من الكتان ، كما انفردت تنيس بصناعة كسوة الكعبة المشرفة على مدى قرون طويلة حتى القرن العاشر الميلادى .
مع بداية القرن التاسع عشر شهدت صناعة الغزل والنسيج طفرة هائلة مثلها كمثل كثير من الصناعات والحرف فكانت أساسا لنهضة صناعية كبيرة وتجربة يمكن الإستفادة منها .
شرع محمد على باشا فى نشر هذه الصناعة فى مصر على الطريقة الأوروبية المتطورة وكان قد بدأ فى زراعة القطن طويل التيلة ، فأنشأ 20 فابريقة ” مصنع ” فى قبلى وبحرى لصناعة المنسوجات بجميع أنواعها من القطن والحرير والكتان والجوخ والقطيفة وأيضا الملابس و الصباغة ، وكانت البداية فابريقة الغزل والنسيج بالخرنفش وأنشئت 1816م والتى استدعى لها محمد على عمالا فنيين من فلورانس بإيطاليا متخصصين فى غزل خيوط الحرير لصناعة القطيفة والساتان الخفيف ثم استبدلت بعد ذلك بمغازل للقطن وماكينات لصنع الأقمشة القطنية . وحتى تنفذ هذه الصناعة الحديثة بأيادى مصرية تم إرسال عددا من المصريين فى بعثات إلى إنجلترا وفرنسا لتعلم أصول صناعة المنسوجات والملابس .
ولتشجيع الأهالى كبارا وصغارا للعمل فى ورش الصناعة كانت لهم أجور مغرية بالإضافة إلى صرف 50% من أرباح المشغولات للمبدعين منهم . كما أصدر الباشا أمرا بجمع كافة أنواع الحياكة وكل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على أنوال سواء حرير أو كتان أو خيش أو حصير لتجميعهم فى ورش متخصصة تعمل طبقا لقواعد وأصول يتعلمونها من الأجانب الموجودين بمصر ومن المصريين المصريين العائدين من البعثات .
أما الطفرة الكبرى لصناعة الغزل والنسيج ، فبدأت فى عشرينيات القرن العشرين حين أسس رائد الإقتصاد المصرى طلعت باشا حرب من خلال بنك مصر 20 شركة كلها تحمل إسم مصر فكانت منها شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى مستعينا بخبراء لتشغيل المصانع وأرسل العمال والفنيين للتدريب فى الخارج ، كما أنشأ مصنعا لحلج القطن فى بنى سويف وشون لتخزين القطن بالمحافظات . كانت تلك الفترة بداية الإستقلال الإقتصادى الحقيقى عن الأجنبى وظهور الرأسمالية الوطنية .
وبعد سنوات طويلة من النجاحات والشهرة العالمية لصناعة الغزل والنسيج ، عانت هذه الصناعة من التعثر والعقبات وكان أساسها عدم الإهتمام بزراعة القطن طويل التيلة الذى تميزت به مصر .
مؤخرا بدأت الدولة الإهتمام بزراعة القطن بعد أن بدأت تندثر وشرعت فى تنفيذ مشروعا قوميا لتطوير صناعة العزل والنسيج يضم 65 مصنعا ومبنى خدمى على مستوى الجمهورية وبالفعل تم تدشين ماكينات أكبر مصنع غزل فى العالم وهو مصنع غزل -1- بشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى ويمثل عصب صناعة الغزل والنسيج التى يتم تطويرها بنحو 33 مليار جنية .
يعود إنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى إلى عام 1927م على مساحة 150 فدان بدأت إنتاجها 1930م بأحدث ماكينات القطن من أمريكا و 12ألف و200 مغزل و4 آلاف نول . انتج المصنع أيضا الصوف بأنواعه للبدل والزى العسكرى والبطاطين والقطن الطبى والجوارب والملابس الداخلية ، وصفه الغرب فى تلك الفترة بالمعجزة الصناعية فكان أكبر مصنع فى العالم.
المدهش أن متوسط أجر العامل كان 30 قرشا فى اليوم ما يعادل دولار ونصف ويتقاضى العمال المتخصصون 4 دولارات بالإضافة إلى وجبات مخفضة تصل إلى 10 سنت للوجبة !!
لم يقتصر إهتمام الشركة على التصنيع فقط ولكن اهتمت بالحالة الإجتماعية والصحية والتعليمية للعمال وابنائهم فأنشأت استاد أوليمبى وهوالآن الملعب الخاص بنادى غزل المحلة ، وأقامت مشروع سكنى للعمال وعائلاتهم ومدارس ومتاجر وعيادات ومستشفى ومسرح مكشوف وحمامات مجانية للجميع . وبالنسبة للكتب والمستلزمات المدرسية والعناية الطبية وحتى الملابس المدرسية كانت توفرها شركة مصر بالتعاون مع الحكومة مجانا .
وصفت بعض الصحف الأمريكية المشروع بأنه ” توجه حديث لمصر الحديثة ، لجعل المواطن المصرى أفضل لعالم الغد ” .