مقالات الرأى

د.أمانى فاروق تكتب : “فخ المقارنة الرقمية: كيف تسرق السوشيال ميديا الرضا من حياتنا ؟!

في زمنٍ صار فيه لكل صورة معنى، ولكل مقطع فيديو قصة تروي حكايات منمقة، ينجذب الملايين يوميًا إلى عالم السوشيال ميديا، وكأنهم يتجولون في معرضٍ لصور الحياة المثالية، لكن خلف تلك الصور اللامعة والابتسامات المتكلفة يكمن واقعٌ آخر؛ واقعٌ يعكس آثار ثقافة التريندات والمقارنات التي باتت تسكن بيننا كأشباح صامتة تؤثر على تفاصيل حياتنا اليومية وتضع ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا يتسلل إلى بيوتنا المصرية البسيطة، مشكلاً تحديًا حقيقيًا لقيمنا وتوقعاتنا.

أصبح من الشائع أن يشعر الفرد بعدم الرضا حين يقارن حياته بالقصص المثالية التي تعرضها وسائل التواصل، الصور التي تُظهر حياة السفر الفاخر والمنازل المثالية تُعزز الشعور بالنقص لدى الكثيرين، وتدفعهم للسعي خلف مظاهر قد تكون بعيدة عن قدراتهم وإمكاناتهم. وما يُفاقم هذا الشعور هو سرعة انتشار التريندات التي تنقل إلينا صورًا لأشخاص يبدون وكأنهم يعيشون حياة الأحلام. فتتوالى التساؤلات داخل النفس: لماذا لا أملك ما يملكه الآخرون؟ لماذا لا تبدو حياتي بهذه الجاذبية؟

وبينما تغذي هذه التساؤلات مشاعر القلق والتوتر، تؤثر على العلاقات الأسرية، إذ يجد أفراد الأسرة أنفسهم في منافسة غير مباشرة لتحقيق نفس المعايير التي تُعرض عليهم باستمرار، مما يضع ضغوطًا على الشباب وعلى الأهل لتحقيق صور غير واقعية من النجاح والسعادة. وهنا، يبدأ التوتر في النمو بين الأجيال داخل البيت الواحد، حيث يسعى الشباب لتلبية متطلبات الحياة العصرية المتمثلة في تلك الصور والقصص التي يراها الجميع دون استثناء.

هذا التأثير لا يقف عند حدود التوقعات، بل يمتد ليؤثر على الصحة النفسية. فمع الانغماس المتكرر في المقارنة، تتراجع مستويات تقدير الذات لدى الشباب والأمهات بشكل خاص، ليجدوا أنفسهم في دائرة من الحزن والقلق، فالفتيات الشابات يقارنّ أنفسهنّ بالمشاهير والشخصيات المؤثرة، فيظهر عدم الرضا عن الذات، وتزداد مشاعر القلق والانزعاج من الحياة اليومية التي لم تعد تناسب ما يُرى كمعايير “النجاح والسعادة”.

تساهم السوشيال ميديا، عبر ثقافة التريندات، في توجيه قيمنا ومعتقداتنا بشكل غير مباشر. فما تقدمه هذه المنصات من مظاهر براقة وتقدير للحياة السطحية يضعف في بعض الأحيان من القيم العميقة التي تعلمناها، مثل الجدية في العمل والالتزام بالمبادئ الأسرية، ويجعلنا نعتمد على المعايير السريعة التي تقدمها الحياة الرقمية. يصبح الكسب السريع والنجاح الملمع هو الحلم الذي ينادي الشباب ليطاردوه، بينما تتراجع أهمية العمل الجاد والتحصيل الحقيقي.

لكن، ورغم تلك التحديات، يمكننا جميعًا أن نكون جزءًا من الحل، إذا التزمنا بنشر الوعي حول كيفية استخدام السوشيال ميديا بشكل واعٍ ومسؤول، بعيدًا عن المظاهر السطحية والمقارنات غير الواقعية. فتعليم الأجيال الشابة أن قيمة الإنسان لا تقاس بعدد المتابعين أو جودة الصور، بل بجوهره الحقيقي، هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع يتمتع بالسلام الداخلي والرضا. ويبقى لنا الخيار، إما أن نسير خلف أوهام الكمال التي تروجها المنصات، أو نختار أن نعيش حياة حقيقية تتناسب مع هويتنا وقيمنا الأصيلة.

ختاما، إن السوشيال ميديا أداة لا غنى عنها اليوم، فهي تجمعنا وتُتيح لنا التعرف على عوالم جديدة. لكنها أحيانًا تفرض علينا صورة مثالية تستهلك عقولنا وتؤثر على رضانا عن حياتنا، فنحن من نملك القدرة على استعادتها، وتحديد الطريقة التي نستخدمها بها. ورغم قوة التريندات وجاذبيتها، تبقى القوة الحقيقية في قدرتنا على رؤية جمال حياتنا بعيدًا عن ضوء الشاشة.
———
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الانتاج الاعلامى

زر الذهاب إلى الأعلى