مايسة السلكاوى تكتب: (حكايات من زمان 2) – الأزهر الشريف وإبن كلس

فى كل عصر وزمان شخصيات تلعب أدوارا فى حياة الملوك والحكام، وغالبا ما تكون من الشخصيات المقربة لهم ، وغالبا ما يكونون من وزرائهم وأحيانا يأتى ذكرهم فى التاريخ عابرا. وعند الإطلاع على سيرة هؤلاء المقربين يتبين لنا سبب اختيارهم “أهلا للثقة” لما يتصفون به من الذكاء واللباقة والإخلاص ، من هؤلاء يعقوب بن كلس أول وزير للدولة الفاطمية فى مصر .
على مدى 12 عاما استطاع هذا الوزير أن يحقق أعلى قيمة للدينار المعزى ، فكان اقتصاديا بارعا وأيضا اهتم بدور الأزهر وحوله من مجرد جامع إلى مكانا لدراسة العلوم ، ونشر المذهب الإسماعيلى الشيعى ،ليصبح مؤسسا لأول جامعة إسلامية ، وهذا ما سنتاوله بالتفصيل بعد التعرف على هذه الشخصية .
ولد أبو الفرج يعقوب بن كلس لعائلة يهودية عام 930م فى بغداد ،سافر إلى الشام مع والده ليعمل بالتجارة ، ثم جاء إلى مصر فى عهد كافور الإخشيدى واستطاع الوصل إليه إلى أن أصبح من المقربين له ، أعجب كافور بذكائه وحاز على ثقته لدرجة توليه مسؤلية جمع الضرائب ، وذات يوم سمع يعقوب بما قاله كافور لأصدقائه : لو كان يعقوب مسلما لأستوزرته (جعلته وزيرا) فما كان من يعقوب أن ذهب لجامع مصر(جامع عمروبن العاص) وصلى الجمعة مشهرا إسلامه أمام كافور الإخشيدى ، طمعا فى المنصب ،وبالفعل أصبح الوزير المسؤل عن مالية مصر ،لدرجة أن كافور أمر أصحاب الدواوين ألا يصرف شئ من المال إلا بتوقيع ابن كلس ، مما أثار غيرة الوزير جعفر بن الفرات الذى فهم مقصده ، فحاول الوشايه به عند كافور ، فهرب من مصر .
ولأن يعقوب كانت لديه رؤية جيدة للأحداث فتوجه إلى المغرب مقر الخلافة الفاطمية والتى كانت تطمع فى غزو مصر ومن خلال اليهود بالمغرب توصل إلى المعز ، وقد امده بأخبار مصر وبالمعلومات التى تؤهله لغزوها ، والحقه المعز بخدمته و اصطحبهمعه عند دخوله إلى مصر .
استحوذ بن كلس على ثقة المعز ، الذى أولاه مسؤلية الخراج وكل ما يتعلق بجمع الأموال من جزية وأحباس (الأوقاف) كما تولى الحسبة وامور السواحل (الجمارك) . وأكد يعقوب ولاؤه حين دعى طوائف متنوعه من المصريين للقاء الخليفة ، ليحدثهم عن آل البيت وأن خير الناس بعد رسول الله صل الله عليه وسلم ، على بن أبى طالب والحسن والحسين والسيدة فاطمة والسيدة زينب رضى الله عنهم ،حتى يجذبهم للمذهب الجديد ، وبعد ثلاث سنوات توفى المعز .
استمر يعقوب بن كلس وزيرا لإبن المعز ، العزيز بالله وكان يقدره خير تقدير ، فعلا شأنه حتى لقب “بالوزير الآجل” فكان وزيره الذى يثق به ويعتمد عليه . كان الجامع الكبير (الأزهر) حتى ذلك الوقت مخصص للصلاة فقط ، فاقترح على العزيز أن يسمى ( بالجامع الأزهر) نسبة إلى القصور الزاهرة التى بنوها وأيضا لسبب معنوي نسبة للسيدة فاطمة الزهراء . اهتم ابن كلس بالأزهر وحوله إلى حلقة للعلم ، ونشر الفقة الإسماعيلى الشيعى ، وألف كتاب “الفقة الوزيرى ” وكان يقرأه على الطلاب والمشايخ كما ألف كتاب” الرسائل الوزيرية ” جمع فيه كل ما سمعه من المعز لدين الله والعزيز بالله ، وترغيبا للمصريين للإلتحاق بحلقات الدراسة قرر صرف مرتبات للشيوخ والفقهاء والدارسين وإطعامهم ،وبناء بيوت للغرباء عن القاهرة (الأروقة) ودار ضيافة ،حرصا منه على نشر المذهب الشيعى فى مصر ، مما جعل الأزهر أقدم جامعة فى العالم وإلى الآن ولكن على أساس دراسة الفقة السنى .
أصبح ابن كلس مسؤلا عن دواوين الدولة ونقلها إلى بيته وجعل فيها خزائن كبيرة جدا للكتب والمراجع والمال والدفاتر، وعين لكل منها ناظرا عليها . وفتح بيته ليكون ملتقى للأدباء والعلماء والفقهاء والشعراء والأطباء تعقد فيه اسبوعيا حلقات نقاشية .
لهذا الوزير حكاية طريفة تدل على ذكائه وفطنته وتوضح أيضا سبب تمسك الخليفة به واستمرارة فى تلك المناصب المهمة ..
.. أراد الخليفة العزيز بالله الذهاب إلى دمشق فسأله يعقوب عن السبب فقال له: اشتهيت “القراصيا” وهذا موسمها فما كان من بن كلس إلا أن خرج من مجلس الخليفة وأرسل بتعليمات إلى والى دمشق يبلغه بأن يرسل كمية من القراصيا على أجنحة الحمام الزاجل ! وبالفعل جعل والى دمشق بكل جناح حمامة حبة قراصيا وبالطبع كان السرب كثير العدد وخلال ثلاثة أيام عاد الحمام إلى مصر فجمع الوزير ما بأجنحتة ووضعها فى طبق وقدمه إلى العزيز فكانت مفاجأة سارة له فأعجب بهذا التصرف وقال له : مثلك من يخدم الملوك !
الى جانب دوره الكبير فى نشر المذهب الشيعى ، كان زكيا وماكراواقتصاديا بارعا فقد ارتفع بقيمة الدينار المعزى فى السوق عن الدينار العباسى فلا يتم التعامل إلا به ، واهتم بالتجارة و بصناعة المنسوجات خاصة فى تنيس ودمياط وفرض عليها ضرائب ، أسس فرقة عسكرية جديدة تضم كل الأجناس وكان السبب فى إبعاد جوهر الصقلى ، وكان شديد العداء للمسيحيين وحاول التخلص منهم عدة مرات .
حزن العزيزبالله جدا لمرضه حتى قال : يا يعقوب وددت انك تباع فأشتريك من الموت بملكى فهل من حاجة ؟ وعندما مات كفنه العزيز بخمسين ثوب منها ثلاثون منسوجه بالذهب ودفنه فى القصر بيدهفى قبة أنشأها لنفسه ، وامتنع عن الطعام على مائدته طوال ثلاثة أيام هى فترة الحداد وأقام له العزاء على قبرة ثلاثين يوما يقرأ فيها القرآن .
ترك يعقوب بن كلس ثروة كبيرة من الأموال والأراضى والتحف والجواهر والعبيد منهم الأسود والأبيض .