مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: العالِم الموسوعي عبد الصبور شاهين

0:00

فضلاً عن أستاذيته في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وغيرها من الجامعات العربية، فقد كان الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين 1929-2012 متحدثًا مفوهًا وخطيبًا بارعًا، حيث قضى من عمره 10 سنوات كاملة خطيبًا لجامع عمرو بن العاص، أقدم الجوامع والمساجد المصرية، كان الناس يقصدونه يومئذ من كل فج عميق؛ ليشهدوا خطبة الجمعة، عندما كان للمنابر دور مشهود في بناء الوعي.
كانت إطلالة “شاهين” التليفزيونية متفردة. كان –رحمه الله تعالى- ذا حضور طاغٍ. وفي المناظرات لا يُشق له غبار، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يمسك العصا من المنتصف، ولا يناور ولا يجامل ولا ينافق. تصدى وحده حينًا من الدهر لأئمة الضلال والتضليل، فما وهِن لما أصابه في سبيل الله وما ضعف وما استكان. كما أثرى الأكاديميُّ الدرعميُّ المكتبة العربية والإسلامية بعشرات المؤلفات والكتب المختلفة التي بلغت 65 كتابًا. كان الدكتور عبد الصبور شاهين موسوعة إسلامية عن جدارة واستحقاق.
يُعَدُّ كتابُ “تاريخ القرآن” واحدًا من الكتب المهمة والبارزة في إنتاج “شاهين” الفكري والديني؛ لاعتنائه بتاريخ القرآن الكريم والرد على الطاعنين والمشككين فيه. الكتاب -الذي يقع في 9 فصول ويحتوي على 306 صفحات- يناقش تاريخَ القرآن الكريم وما يتعلّق به من قضايا مثل: الأحرف السبعة، ونقل القرآن، وقضية المصاحف، وغيرها من القضايا والإشكاليات التي خاض فيها الخائضون –ولا يزالون- بغير علم وبسوء نية. كتب “شاهين” كتابه مُتسلحًا بعلم واسع وغزير؛ حيث كانت رسالته في الماجستير عن: “أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي”، فيما جاءت رسالته للدكتوراه تحت عنوان: “القراءات الشاذّة في القرآن الكريم”.
يستهل “شاهين كتابه بوضع تعريف دقيق للقرآن الكريم وهو: “القرآنُ كلام الله المُنزَّل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، بوساطة الوحي، مُنجّمًا في شكل آيات وسُوَر، خلال فترة الرسالة التي دامت ثلاثًا وعشرين سنة، مبدوءًا بفاتحة الكتاب، مختومًا بسورة الناس، منقولًا بالتواتر المطلق، برهانًا مُعجزًا على صدق رسالة الإسلام”.
في موضعٍ تالٍ..ينتقل “شاهين” بسلاسة إلى تحديد السور المَكية والمَدنية، ويفصِّل القول في هذا الأمر تفصيلاً. بعد ذلك..يتطرق الكتاب إلى إشكالية “التنجيم” والحُكم منه؛ منوهًا إلى نزول القرآن مُقسَّمًا عبر الزمن؛ ليتكامل المكيُّ منه والمدنيُّ في تقرير الأحكام النهائية للشريعة.في موضع آخر من الكتاب..يناقش “شاهين” قضيةَ أسباب النزول؛ مُنتهيًا في ذلك إلى القاعدة الراسخة بأنّ “العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، مع التأكيد على بقاء السبب جانبًا من تاريخ النصّ يُسترشَد به في بيان المراد أصلًا.
قضية “النسخ” أخذت من اهتمام المؤلف الجليل الشيء الكثير؛ لا سيما أنها من أكثر القضايا التي يخوض فيها الجاهلون –ولا يزالون- بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، حيث يخلص إلى أنّ قوله تعالى: “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا”، قد لا يكون مقصودًا به الآية القرآنية، وإنما المعجزات والأديان التي نُسخت بالقرآن والإسلام.
يقرُّ “شاهين” ثبوت النصّ القرآني الحالي بالتواتر المطلق، بما لم يتوفّر لأيّ كتاب غيره، مشددًا على أن المسلمين حافظوا على الرّسم المُصحفي رغم تطوّر قواعد الإملاء، حتى أصبح ذلك الرسم شرطًا لصحة القراءة؛ الأمر الذي أكسبه حَصانةً صانته من أيّ تحريف قد ينشأ مِن تغيُّرِ قواعد الإملاء.
في فصل آخر..تناول “شاهين” أحكام التلاوة القرآنية؛ ليوضح أنها جاءت بتطبيق مباشر من النبيّ يتبع فيه أمر الوحي بالتلاوة حينًا، والترتيل حينًا، والتبيين بالقراءة على مُكْثٍ حينًا آخر، ولا يمكن أن تأتي القراءة القرآنية إلا بالتلقين؛ فتوفّرت في قراءته دقةُ الأداء، وفصاحةُ اللغة، والمحافظةُ على بيان كلّ صوت، ثم جمال الصوت وتطريبه. الكاتب توسَّع في الحديث عن أمر القراءات المختلفة للقرآن، منوهًا إلى أنها كانت -في البداية- من باب التيسير على المسلمين من غير اللسان القرشي.
في قضية الإعجاز القرآني.. انتهى “شاهين” إلى أنّ فكرة إعجاز القرآن فكرة أبدية لَزِمته منذ أُنزِل حتى نهاية الزمان، وأنّ لكلّ جيل إدراكه الخاصّ منها بما يتناسب مع ثقافته، وأنّ القرآن ثروة لغوية لم تشهدها لغة من لغات البشر، فوسِعت ألفاظُه الدلالة على كلّ حقائق الكون المنظور والمستور، وهذا أعظم أسرار إعجازه.
وإجمالاً..فإن كتاب “تاريخ القرآن” من الأسفار العظيمة التي يجب الاعتماد عليها في الرد على الطاعنين والمستهزئين والمُشككين والمُتشككين في كتاب الله تعالى، كما إنه ينبيء عن عالم ومفكر من طراز فريد ندر وجوده في هذا الزمان الذي تقاسمه إمَّا مهاويس باحثون عن الشهرة، وإمَّا علماء حقيقيون، لكنهم يخشون الإفصاح بكلمة الحق؛ خوفًا وطمعًا، حتى تصدَّر الباطلُ الصفوف، وعاد الحقُّ القهقرى إلى إشعار آخر!

زر الذهاب إلى الأعلى