مقالات الرأى

د.أمانى فاروق تكتب : «ميدترم» .. حين يصبح الوجع النفسي امتحانًا قاسيًا للحياة

0:00

لم أتعلم أهم دروس الحياة من الكتب وحدها، بل من الوجوه التي أجلس أمامها كل يوم. وجوه شابة، في عمر الحلم والطموح، لكنها تحمل أحيانًا من التعب النفسي ما لا تحتمله سنوات العمر. في لحظة ما، وأنت تنظر في أعين طلابك، تدرك أن هناك ما هو أخطر من تأخر في التحصيل أو غياب عن محاضرة… هناك وجع داخلي صامت، لا يصرخ، لكنه ينهش الروح ببطء.
من هنا، جاء ذلك القرار العفوي الذي أكرره دائمًا: أن أقتطع دقائق من كل محاضرة للحديث عن الإنسان قبل المنهج. في أحد الأيام، تحدثت مع طلابي عن التنمر، عن السخرية التي تُقال باستخفاف، وعن الكلمات التي نلقيها دون وعي بعواقبها. لم تكن محاضرة، بل اعترافًا جماعيًا غير مباشر. رأيت استجابة صادقة، وملامح فهم، وأدركت أن الكلمة الواعية قد تكون أحيانًا أداة إنقاذ، لا مجرد نصيحة عابرة.
هذه اللحظة الإنسانية تحديدًا أعادتني وأنا أتابع مسلسل «ميد ترم»، المعروض على شاشة ON TV ومنصة شاهد، عمل يقترب بجرأة من عالم الشباب النفسي، دون تجميل أو تبسيط مخل. المسلسل لا يتحدث عن أزمات فردية معزولة، بل يكشف عن شبكة معقدة من الضغوط: مشكلات أسرية، غياب الاحتواء، أصدقاء يتأثرون ببعضهم حتي الإنخراط، وقرارات مصيرية تُتخذ تحت وطأة ألم غير مُشخَّص.
«ميدترم» يضعنا أمام حقيقة لا يجب الهروب منها: المرض النفسي اليوم أشد ألمًا وخطورة من المرض الجسدي. الجسد حين يتألم يصرخ، أما النفس فتنهار في صمت. نحن نعيش عصرًا بات فيه القلق والاكتئاب واضطرابات السلوك جزءًا من يوميات الأطفال والمراهقين والشباب، بما يهدد التكوين الأسري بالكامل، لا فردًا واحدًا فقط. فالشاب المريض نفسيًا لا يعيش ألمه وحده، بل يوزعه – دون قصد – على من حوله.
ومن أخطر ما يطرحه المسلسل بذكاء شديد، قضية العلاج النفسي ذاتها. فالحاجة للعلاج والدعم النفسي أمر بالغ الأهمية، لكن الأخطر هو: من يعالج؟ وكيف يعالج؟ ظهور شخصية «دكتور فرويد» المجهولة حتي الآن داخل العمل، إلى جانب التطبيق أو الـ App المزعوم للعلاج النفسي، لم يكن تفصيلة درامية عابرة، بل ناقوس خطر حقيقي. إشارة واضحة إلى الفوضى الرقمية التي نعيشها اليوم والمعرضة إلي الإختراق وانتهاك أدق الخصوصيات، حيث تحوّل العلاج النفسي أحيانًا إلى نصائح رقمية من صنع ال Ai، أو وصفات سريعة يقدمها غير المتخصصين، ما قد يفاقم المرض بدلًا من علاجه.
الطب النفسي اليوم يجب أن يكون في مقدمة أولويات المجتمع، لا باعتباره رفاهية، بل ضرورة لحماية الإنسان والأسرة. والدعم النفسي الحقيقي لا يكون إلا عبر معالجين موثوقين، مؤهلين علميًا وأخلاقيًا، يدركون خطورة الكلمة، وتأثير التشخيص الخاطئ، ومسؤولية التعامل مع نفوس هشة في مراحل عمرية شديدة الحساسية.
هنا تتجلى قيمة الدراما الواعية. فـ«ميدترم» لا يقدم حلولًا جاهزة، لكنه يطرح الأسئلة الصحيحة، ويجبر المشاهد على التفكير والمواجهة. وهو ما يُحسب لصنّاع العمل جميعًا، الذين قدّموا أداءً تمثيليًا متماسكًا ومقنعًا، عبّر بصدق عن صراعات داخلية معقدة دون مبالغة أو افتعال.
وتحية خاصة للمخرجة الشابة مريم الباجوري، التي أثبتت أن الرؤية الواعية قادرة على تحويل النص إلى حالة إنسانية مؤثرة. خريجة قسم السينما بالأكاديمية الدولية للهندسة وعلوم الإعلام بمدينة الإنتاج الإعلامي، والتي قدّمت عملًا يؤكد أن جيلًا جديدًا من المبدعين يحمل وعيًا حقيقيًا بقضايا مجتمعه، ويملك الجرأة على الاقتراب من المناطق الشائكة بصدق ومسؤولية.
في النهاية، «ميدترم» ليس مجرد مسلسل عن الشباب، بل ناقوس خطر ، أو رسالة تحذير هادئة: انتبهوا لما لا يُقال، لما يُخفى خلف الضحك، لما يُترك دون علاج. فالنفس حين تُهمل، قد تتحول إلى امتحان قاسٍ… ليس له دور ثانٍ.
——-
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الإنتاج الإعلامى

زر الذهاب إلى الأعلى