مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: أنا محور الكون!!

0:00

يومًا من الأيام، زارني صاحبي في المنام، وقال لي: ظننتُ أنني محور الكون حتى مِتُّ، وشاهدتُ الحياةَ من موقعي الجديد مستمرةً، وكنتُ أظن كل أحداثها متعلقةً بي؛ فأنا باشا الكوكب، وسيد السادات، وعائلتي بدوني لا شيء!!

حزن الناسُ عليَّ فترةً من الزمن _ ليست بالطويلة _ تذكروني بين الحين والآخر، كانوا في البداية يبكون كثيرًا، وشيئًا فشيئًا جَفَّتِ المآقي، وأصبح البكاءُ يزور العيون على فتراتٍ متباعدة لا أستطيع تحديدها؛ فالزمن عندي قد توقف، إنني أعيش بلا أحداث، فلا زمن إذن!!

أشاهد ما يحدث في الحياة الدنيا نعم، لكنني لستُ فاعلًا في أحداثها، بل على العكس، أحيانًا أتحسر على ما ضيَّعتُ، وأتمنى لو عُدتُ مرةً أخرى لأُصلحَ ما أفسدتُ، وأنتهز ما فيه فرطتُ!! يقترب أحدُ ذوي رحمي أو أصدقائي من إصلاحِ شيءٍ أفسدتُه، فتفرحُ رُوحي التي فارقتْ جسدي بهذا الأمر الذي سيُفيدني وأنا أرى شريطَ حياتي فتزعجني أخطائي وأتمنى لو أُصلِحَتْ، وتُفرحني حسناتي وأتمنى لو زادت!!

أصبحتُ أبكي على نفسي وليس هناك من يَرْبِتُ على كتفي لأهدأ، إلا دعوة عابرة أو صَدَقة تَذَكَّرَني بها أحدُهم. أكاد أعرف في حياتي الأولى من سيبكي بعد انتقالي ومن سيُصدم ومن سيتذكرني بخير، لكني وإن لم أكن في حياتي الأولى أستطيع تحديدَ أي عمل كنتُ فيه مخلصًا، وأي عمل كنتُ فيه مُرائيًا باحثًا عن الشهرة واللقطة، إلا أنه الآن حصحص الحق، وأنا أرى شريطَ أعمالي كعمل سينمائي، مكتوب أسفل كل مشهد في حياتي: مخلص/ مرائي/ من أجل الله/ من أجل فلانة/ بكاء بصدق/ بكاء تمثيل/ أعطاك الناسُ أجرَك كما تمنيتَ/ أجرُك هنا على الله/ صبرتَ/ جزعتَ/….. إلخ.

لكن اللافتَ للنظر أن كل من يعرفني قد لحِق بي، وأتى على الدنيا زمنٌ لم يعد أحدٌ يعرفني ومُحِيَ اسمي، وأصبحتِ الدعواتُ التي تأتيني دعواتٍ عامة وليست خاصة، ولم يعد أمامي إلا ما قدمتُ لنفسي، وما بعثتُ به قبل مجيئي، وتذكرتُ ما قرأتُه عن الصحابي أبي الدّرداء، إذ كان منزلُه خاليًا فلمَّا سُئِل: أين متاعُك يا أبا الدّرداء؟! قال: “لنا دارٌ أُخرى نُرسِلُ إليها صالِحَ متاعِنا!!

ما هذا التقصير الذي أراه في فيلم حياتي؟! لماذا وأنا صحيحٌ مُعافى أخذتْني هذه المباراةُ من الصلاة، وشغلني هذا الفيلم عن الذكر؟! ألم يكن هناك متسعٌ من الوقت لأشاهدَهما بعيدًا عن وقت نداء الله؟! حين امتلكتُ الصحة والعافية قصَّرتُ، وحين كانت لديّ الرغبة في العمل لوجه الله خانتني صحتي، ولم يعد أمامي إلا الأماني!! لكني أرى في مشاهد حياتي أعمالًا لا أتذكرها، هي بسيطة حقًّا لكنها راجحة رابحة!! هذا الصبي الذي ساعدتُه يومًا في جمع ما تفرق منه على الأرض، هذا الشيخ الذي أجلستُه مكاني في مترو الأنفاق، هذه السيدة التي ساعدتُها في حَمْلِ متاعٍ كان ثقيلًا عليها، هذا الرجل الذي تبسَّمتُ في وجهه، هذا اليوم الذي وزعتُ فيه الحلوى على أطفال شارعي، وهذه الليلة التي صليتُ فيها ركعتين وذكرتُ الله ودعوتُه خاليًا ففاضتْ عيناي!! إنها حقًّا أعمالٌ ثقيلة في الميزان فلا تُقَلِّلْ من وزنها أبدًا!!

يا صديقي، أنا الآن تركتُ الحُكمَ على الناس، واقتنعتُ أنه لا ينبغي إلا لرب الناس، وتركتُ أيضًا سوءَ الظن، وأكاد أجزم أن ذلك المُشَرَّدَ في الشوارع الذي يفترشُ الأرضَ ويلتحِفُ السماءَ ولن يجدَ قبرًا يُؤوي جسدَه عند الممات، وسيكون مصيرُه بين يدي طلبة كلية الطب يتعلمون التشريحَ على جسده المنهك، أكاد أجزم أن له ثوابًا كبيرًا جزاءَ ما علَّمَ وأفاد، فالأمر بيد الله وحدَه، هو الأعلم بالنوايا والخفايا والخبايا والأحوال، هو الأعلم كيف يَجزي عبادَه بما يستحقون، وكيف يتفضل عليهم بما يستحق هو سبحانه من عظمةٍ وقُدرةٍ وعِزَّة!!

تذكرتُ يومًا رأيتُ فيه امرأةً كنتُ أُحسن إليها رأيتُها تشرب كوبًا من العصير، فقلتُ في نفسي: وهل أُحسن إليها لتشرب عصيرًا؟! من المفترض أنها لا تجد ما يسد رمقها إلا بالكاد!! والآن في موضعي الجديد، رأيتُني أقول: وهل كنتُ أُحسن إليها لتأكلَ طُوبًا؟! من المفترض أن الإحسان يجعلُها تعيش أحسنَ مما كان، فلماذا أريدها أن تمتنع عن كل متعة ولو كانت بسيطة؟! تبًّا لي ولأفكاري!!

ما هذا؟! لقد استمرَّتِ الحياةُ مِن بعدي ونسيني الناس!! وأنا الآن نادمٌ حيث لا ينفعني الندم، أنا الآن لا أملك لنفسي شيئًا، واكتشفتُ أنني لم أكن أملك لها شيئًا إلا الإحسان في الزمن الذي كان!! لستُ إذن محورَ الكون كما كنتُ أعتقد!!

زر الذهاب إلى الأعلى