مقالات الرأى

جمال رشدي يكتب: رحلة القنصلية المصرية في الرياض من الطابور الي الرقمنة

0:00

لطالما كانت صورة القنصلية أو السفارة هي المرآة التي يرى فيها المواطن بلاده خارج حدود الوطن، ولطالما كانت هي البوابة التي تنبعث منها هيبة الدولة أو تنكسر، احترامًا أو إهمالًا. ومن هنا، كانت تجربتي مع القنصلية المصرية بالرياض منذ عشرات السنوات، نقطة مفصلية قادتني إلى إدراك عميق بأن الإرادة وحدها كفيلة بتحويل المؤسسات من العبء إلى النموذج.

أعيش في الرياض منذ سنوات طويلة، وحضرت تعاملات العديد من البعثات الدبلوماسية، ومعايشتي لتطوراتها دفعتني للمقارنة – دون تعصب – بين ما كانت عليه القنصلية المصرية وبين نظيراتها من السفارات. ففي أحد أيام الصيف، متذ ثلاث سنوات ذهبتُ إلى القنصلية المصرية بصحبة صديق، لأفاجأ بمشهد صادم: عشرات المئات من المواطنين من رجال ونساء وكبار في السن، يقفون في طوابير طويلة خارج القنصلية تحت شمس تتجاوز حرارتها الخمسين، في انتظار الحصول على خدماتهم. كان المشهد موجعًا ومهينًا، لا يليق بدولة بحجم مصر ولا بمواطنيها.

غادرت المكان وقتها، لا من باب التذمر، بل من شدة الألم، إذ أنني أؤمن بأن هناك مؤسسات وطنية تمثل قدس أقداس الدولة، لا يجب انتقادها على العلن في الإعلام، بل التعامل معها من خلال قنوات التواصل المباشر؛ ومنها الخارجية المصرية التي تمثل الدولة في الخارج. ومن هنا بدأت محاولاتي الشخصية للتواصل مع بعض المسؤولين أملاً في الوصول إلى حل.

وبعد أيام قليلة، جاءت زيارة وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج السفيرة سها جندي إلى الرياض، وبرفقتها السفير المصري السابق بالرياض أحمد فاروق. وخلال فعالية حضرتها الجالية، طُلب مني إلقاء كلمة ترحيب. لكنني، مدفوعًا بالألم، وجهت كلمة غاضبة وصريحة أمام الجميع، تحدثت فيها عن ما يواجهه أبناء الجالية من إهانة ومعاناة في سبيل الحصول على أبسط الخدمات القنصلية، وهو ما أثار صدمة كبيرة بين الحضور.

وعقب هذه الكلمة، كتبت مقالًا تفصيليًا بعنوان “طوابير المصريين أمام القنصلية المصرية بالرياض”، تناولت فيه حجم الأزمة، وأرفقت مقترحًا عمليًا لحلها يتمثل في: التحول الكامل إلى الحوكمة والرقمنة، باعتبارهما السبيل الوحيد لاستيعاب جالية يفوق عددها المليونين في العاصمة السعودية.

وبعد ذلك بأيام قليلة، جاءني اتصال من القنصل العام الجديد آنذاك، السفير طارق المليجي، الذي كان قد تولى مهام منصبه حديثًا. دار بيننا حديث صريح وشفاف، استمعت فيه إلى رؤيته الطموحة، حيث أكد لي أن تحويل القنصلية إلى نموذج إداري رقمي يمثل أولوية قصوى بالنسبة له. بل أبلغني بأنه بدأ فعليًا أولى خطوات التعاون مع أحد البنوك لإطلاق مرحلة التعاملات الإلكترونية.

ومن هنا بدأت رحلة التحول.

بدأ الرجل بخطوات عملية ومدروسة، من تجهيز أماكن مخصصة للانتظار داخل اسوار القنصلية، إلى تنظيم حركة الدخول والخروج، وتحديث آليات العمل الداخلي، وصولًا إلى إطلاق منصة إلكترونية شاملة لحجز المواعيد والاستعلام عن الخدمات، والتي شهدت توسعًا كبيرًا خلال الفترة اللاحقة، حتى أصبحت القنصلية المصرية بالرياض واحدة من أكثر القنصليات العربية تنظيمًا ورقمنة.

واليوم، وبعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، لم يعد هناك أي طابور أمام القنصلية واصبحت الشكاوي والانتقادات اللاذعة التي كانت تنتشر علي مواقع الجروبات المصرية بالسعودية بكثافة معدومة بل تحولت الي شكر وإشادة ، وأصبح المواطن المصري ينجز معاملاته بسهولة واحترام، بل يشعر بأن هناك دولة تحميه وتقدّره في غربته. كل ذلك تم تحت قيادة واعية وإدارة متطورة آمن أصحابها بأن مصر تستحق الأفضل.

وخلال حضوري فعالية أقامها المركز الثقافي المصري بالرياض بدعوة من القنضل العام السفير طارق المليجي ليلة امس الجمعة 16 مايو ، وبحضور كوكبة من الرموز الرسمية، مثل الدكتور أحمد السعيد الملحق الثقافي، والمستشار العمالي محمد عليان، والقنصل النشيط عبدالله حسني، شعرت بأننا أمام نموذج جديد للمسؤول المصري. فقد قدم هؤلاء المسؤولون رؤية واضحة ومتكاملة عن الحاضر والمستقبل، وكان حضورهم مميزًا من حيث الطرح والاقتراب من الجالية، سواء من خلال اللغة العلمية الدقيقة للدكتور السعيد، أو الشرح المتميز من المستشار عليان لقوانين العمل، أو الكاريزما الواضحة والثقافة المتعمقة التي اتسم بها القنصل عبدالله حسني والذي نال اعجاب واشادة وتصفيق حار من الحضور بسبب تفرده واستثنائية طرحه الممزوج يالمعرفة والعلم .

وفي كلمته خلال الفعالية، أصر السفير طارق المليجي على أن ينسب الفضل لفريق العمل داخل القنصلية، مؤكدًا أن ما تحقق هو ثمرة جهد جماعي، لا يُنسب لشخصه وحده.

وقد عبرت كلمات رموز الجالية المصرية خلال اللقاء عن مشاعر فخر وامتنان لهذا القنصل الذي غيّر وجه القنصلية بالكامل، وأعاد لها قيمتها ودورها، وأصبح له مكانة خاصة في قلوب الجميع.

ومع قرب انتهاء فترة عمل السفير طارق المليجي، تعالت الأصوات المنادية بضرورة مخاطبة وزارة الخارجية المصرية، وعلى رأسها الوزير القدير السفير بدر عبد العاطي، لطلب تمديد فترة عمل هذا القائد الإداري، ليستكمل ما بدأه من ثورة رقمية وإدارية حقيقية.

طارق المليجي لم يكن مجرد قنصل، بل كان رجل دولة بمعنى الكلمة، آمن بأن كرامة المواطن تبدأ من أبواب القنصلية، وأن التحول الرقمي ليس رفاهية بل ضرورة. وقد نجح في صناعة نموذج يُحتذى به في كافة بعثاتنا الدبلوماسية حول العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى