مقالات الرأى

مايسة السلكاوى تكتب : (حكايات من زمان 3) موكب الدوسة

0:00

الإحتفالات الشعبية بالمواسم والأعياد الدينية موروث ثقافى قديم عرفة المصريون عبر العصور الفرعونية والمسيحية والإسلامية ، وإن اختلفت المسميات وطرق الإحتفالات . كان ابسط تلك الإحتفالات عند دخول الإسلام مصر642م فكانت رمزية مجردة من تقديس الأشخاص ، كالإحتفال بشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى إلى أن دخل الفاطيون مصر فى القرن العاشر الميلادى ، وأصبحت مصر مقرا للخلافة الفاطمية، فكما أسسوا “القاهرة” 969م ،أدخلوا ثقافة الإحتفالات الشعبية والدينية التى استمرت حتى الآن ، فكان الغرض منها ترسيخا لعقيدتهم ومذهبهم وإلهاء العامة بها ، حتى تعدت ال 25 إحتفالا دينىا وشعبىيا على مدار العام .
ومع زوال دولة الفاطميين زالت معظم تلك الإحتفالات ولم يتبق منها سوى القليل ومن أهمها الإحتفال بالمولد النبوى الشريف وموالد الأولياء والصالحين التى تتم فى جميع المحافظات ، وتشير إحصاءات الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية إلى 2850 مولد للمسلمين والمسيحيين .
بخلاف مظاهر الإحتفالات المعتادة والتى نعرفها جميعا فى تلك المناسابات ،كانت هناك تجاوزات وبدع بعيدة كل البعد عن الإسلام ،ابتدعتها بعض الطرق الصوفية الوافدة على مصر ، فكان أغربها “موكب الدوسة” والذى استمر ما يقرب من 200 سنة قبل إلغاؤه عام 1880م .
بدأت مسيرة الطرق الصوفية فى مصر ، حين بنى السلطان برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية مجمع وضريح فى منطقة بين القصرين وكان يضم مدرسة لتعليم المذاهب الأربعة وبها خانقاه “صومعة” مخصصة لشعائر النسك الصوفية ، فكان على صلة بالطوائف الصوفية ، وكان بروز الصوفية السبب فى إهتمام المماليك بالرعاية الدينيو التى انعكست فى انجذاب شيوخ الصوفية من الأصول التركية والإيرانية إلى مصر، فتم إدماج الشعائر الصوفية بالتدريج فى التعاليم الدينية .
فمنذ ذلك الوقت بدأ يتغلغل التصوف فى مصر وتزايدت الطرق الصوفية الوافدة على المجتمع المصرى كالطريقة المولوية والبكتاشية ، إلى جانب الطرق الصوفية المصرية وأشهرها الطريقة الرفاعية والتى تفرعت منها الدراويش السعدية التى أسسها يونس سعدى الشيبانى .
أما فكرة “موكب الدوسة” فتعود عندما وفد إلى مصر يونس سعدى الشيبانى ودخل القاهرة على حصانه فمر على قوارير زجاجية فلم تنكسر ، مما ابهر اتباعه واحتسبوها من “كراماته” فابتدعوا فكرة “موكب الدوسة”. لدرجة أن الدوسة
أصبحت مظهرا مهما للإحتفال بالمولد النبوى الشريف ولكل الموالد التى تقام بالقاهرة فقط دون باقى بلدان مصر . وفيه يمر شيخ الطريقة السعدية راكبا حصانه ماراعلى أجساد اتباعه من الدراويش ،فكانت أجسادهم متلاصقه ووجوههم إلى الأرض وأرجلهم ممدوده وأزرعهم تحت جباههم وهم يذكرون “الله” وايذانا ببدء الموكب يمر مجموعة من الدراويش الحفاه على ظهور الدراويش المنبطحين على الأرض ، ثم يخطو الشيخ بحصانه على ظهورهم فى موكب مهيب دون أن يظهر عليهم أى معاناه أو ألم ، دليلا على كرامات شيوخ السعدية التى اعطتهم قوة خارقة مكنتهم من التحمل دون الإصابة بأى أذى! .
اهتم الرحالة والمستشرقين الأجانب بتسجيل هذا الإحتفال فى سنوات مختلفة ، وقد سجل الرحاله “ادوارد وليم لين” بريشته موكب الدوسة خلال إحتفالات المولد النبوى الشريف أثناء وجوده بالقاهرة من 1834 -1836م ، فكان يقام موكب الدوسة فى “الأزبكية” حيث منزل الشيخ البكرى نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الصوفية ،على مساحة 300 متر مفروشة بالحصر ، تغطيها أجساد الدراويش المتلاصقة . واستمر الإحتفال بتلك المنطقة بحضور مختلف الطرق الصوفية وأهالى المحروسة من المسلمين والمسيحيين .
حاول الخديو إسماعيل إبطال هذه البدعة لما يترتب عنها أضرار وإصابات من تكسير العظام أو خلعها لكنه لم يتمكن لمعارضة شيخ الطريقة السعدية ومشايخ الطرق الصوفية .
كما كانت للخديو توفيق نفس المحاوله خاصة بعد موت الفرس المخصص للإحتفال ثم موت الشيخ البكرى وشيخ الطريقة السعدية فى تلك الفترة ، فأمر توفيق بنقل الإحتفال إلى صحراء العباسية كمرحلة أولى ، ثم أصدر أمرا عام 1888م بإلغاء الدوسة بالإتفاق مع مشايخ الأزهر الشريف وفى العام التالى تولى شيخ جديد من بيت البكرى نقابة الأشراف فوافق على إلغاء هذا الإحتفال الذى لا يمت للدين الإسلامى بأى صلة .

زر الذهاب إلى الأعلى