مقالات الرأى

رأفت السويركي يكتب: “كارثة مصر ونكبتها” الحقيقية… هي في نُخْبَتِهَا!!

يوماً بعد يوم يتزايد اليقين عبر الجهد التفكيكي للخطاب السياسوي المحيط بالمسألة المصرية بأن مصر منتكبة راهناً انتكابة لا حدود لحجمها في عقولها النخبوية؛ خاصة من الأكاديمويين وأساتذة الجامعات، الذين يمثلون الشريحة المفترض أن أفرادها ارتقوا إلى درجة كبيرة من التعلم العميق؛ والفهم الحاذق لجوهر “قانون التفكر الحر”، والدربة على ممارسته؛ ليكون قولهم موزوناً ووازناً.

والأمر المثير للذهول أن المنتج الخطابي للعديد من أفراد هذه النخبة يدل على مقدار انخلاعها من الهوية الأكاديموية، واصطفافها في مجال الوظيفة الانفعالية الذهانية الشعبوية؛ ليس نزولاً محكوماً بالتواضع إلى ذلك الحيز السياسوي، ولكن وهذا هو المؤسف تعبيراً عن طعم النُكْهَة بما يكشف سر النكبة؛ إذ تناست تلك النخبة، أو تجاوزت عما ينبغي أن تكون قد تعلمته وصارت تُعلمه للأجيال من الطلاب في قاعات الدرس بالجامعات من “قواعد التفكر المنهاجي” المفترضة.

لقد تناست تلك النخب الأكاديموية محمول ذلك القانون الذي تتغافل عن استخدامه؛ بأن يكون الشخص حين يتفكر… ينبغي أن يكون مُتَجَرِّداً من نوازعه النفسانية ووجدانياته، قبل أن يقرأ الموضوعة التي يتولى القول حولها؛ وقبل أن ينطق بما سيقوله حولها؛ ليكون من زمرة السالكين درب الحقيقة المجردة.

إن فعل تفكيك خطاب بعض نماذج العقل النخبوي الأكاديموي المتسيس التي نحجم عن ذكر أسمائها ووظائفها؛ يدفع لطرح مجموعة من التساؤلات الكاشفة لنسق خطاب هذه العناصر؛ ومدى تهافتها الفكراني سياسوياً بما ترتديه من أقنعة للتمويه والتلبيس على الجمهور… ومنها:

– هذا الأستاذ الجامعي المتوتر دوماً في كتاباته، قبل أن يتشدق مُطالباً باللفظ الشائع المُسمى “الديموقراطية”… يستهلك الاصطلاح بإفراط؛ غير أنه لم يُقدم تصوراً حتى متخيلاً؛ يكون مبدعاً بدلاً من اجترار المعلومات الشائعة حول كيفية تطوير الحياة السياسوية المدنية في مصر؛ وكيفية الارتقاء بأجنَّة ما تُسمى “الأحزاب المدنية” الوهمية؛ ما يفضح أنه لا يمتلك أي تصور أكثر من استهلاك الكلمة/ الحلم.

– وذلك الأستاذ الجامعي الغاضب دوماً مما يعتبره سلبية الجماهير وانصرافها عن الاستجابة لـ “هرطقاتهم” النخبوية، لم يقدم تصوراً أو حتى ملامح مشروع وطني على سبيل المثال لمحو الأمية الالفبائية المخيفة في مصر؛ أو يتطوع بتقديم تصور هيكلي للتأهيل السياسوي لهذه الجموع الخام بما يكشف علامات عبقريته السياسوية المدعاة؛ بدلاً عن استهلاك المعلومات النمطية التي كتبها أهل التجربة الغربية حول مجتمعاتهم المغايرة في النسق والتطور والذهنية.

– وهذا الأستاذ الجامعي المدَّعي الحزن الاجتماعي والمتباكي دوماً بسبب أوضاع الحياة السياسوية المصرية، فيمارس “الملطمة”، هذا الأستاذ لم يقدم دراسة تحليلية موثقة راصدة لطبيعة وموازين القوى في مصر ومعايير قوتها؛ وكيفية حفزها للمشاركة الاجتماعوية والسياسوية.

– وذلك الأستاذ الجامعي الناقم دوماً، والصارخ بفجاجة من هيمنة “المؤسسة الوطنية العسكرية” على مقاليد إعادة التحريك المجتمعي لعمليات التنمية؛ يتناسى أو لا يعلم أن تلك المؤسسة الفاعلة بإيجابية تضم أيضاً ما تُسمى “النخبة العسكريتارية الوطنية”؛ ولكنه لا يتوقف عن ممارسة نقمته عليها؛ ولا يُقدم تصوراً مغايراً لفاعليتها؛ يكون موثوقاً به، ويتضمن حلولاً لمشكلة التردي البنيوي الذي طال الدولة بمرافقها ومشروعيها الاقتصادوي والاجتماعوي طيلة الحكم المباركي؛ وتسبب في تعطل مشروعات دولة يوليو الإنتاجية، كي يدل نظام الدولة الراهنة إلى منهجية مختلفة عما تعتمده راهنا لتحقيق خريطة بنية تأسيسية جديدة بدأتها عبر شبكة ممرحلة لربط أقاليم التنمية النوعية في مصر؟

– وهذا الأستاذ الجامعي المستهزئ بطبيعة الحركة الجديدة الراهنة في الواقع المصري؛ يتنطع بسخريته المتواصلة؛ ولم يقدم دراسة تحليلية لطبيعة وهوية القوة التي كانت مهيمنة على مصر بدءاً من مرحلة السادات وصولاً إلى مبارك من الرأسمالية الطفيلية بأضرارها؛ لتكون تلك الدراسة دليلاً لكيفية إجبار هذه القوة على المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته؛ بما يجعلها ترد بعض ديونها للدولة وجمهورها الذي قامت بسرقته طيلة مرحلة مبارك.

– وذلك الأستاذ الجامعي من عبيد النظرية والمتأدلج نمطياً بعنجهية سياسوية منتفخة… لماذا لم يُطور أدواته العلموية، ويرتقي بفهومه الإيديولوجية، ليقدم دراسة معاصرة قد تكون معياراً مرشداً لكيفية تطوير أدوات أو قوى التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر؛ بما يتناسب والتحولات الهيكلية العولمية التي طالت حتى مجتمعات النظرية.

– وهذا الأستاذ الجامعي المماثل لسائق الميكروباص في مشاويره الانتقادية “رايح جاي”… لماذا لا يتوقف عن مسلكية رد الفعل القولي على الحركيّة المشروعاتية للرئيس عبد الفتاح السيسي “تطوير قناة السويس – مشروعات الخلاص من العشوائيات – الاستزراع السمكي – شبكة الطرق الجديدة – المدن الإنتاجية المتخصصة – استصلاح الأراضي – العاصمة الإدارية الجديدة – تنمية سيناء – تحديث قدرات الجيش المصري بتنويع أسلحته … إلخ”، ويبادر بتقديم تصور تنموي أكاديموي يُعتد به؛ ليكون بديلاً مناسباً وفق تصوره العظيم بما يُمكن نظام الدولة من حل مشكلات الواقع الراهن وبناء المستقبل؟

الأسئلة كثيرة ويضيق الحيز عن الاستطراد في ذكرها؛ ولكنها جميعها تكشف تهافت الكثير من النخب الأكاديمية المتسيسة؛ التي تبدو في إطلاق أحكامها أنها ترتدي أقنعة التمويه؛ وهي أبعد ما يكون عن فهم جوهر “قانون التفكر الحر”، لذلك يبدون للفعل التفكيكي أنهم في خطابهم السياسوي أقرب للعقلية الشعبوية؛ ويتأكد القول بأن “كارثة مصر ونكبتها… هي في نخبتها”!!

زر الذهاب إلى الأعلى