د.أمانى فاروق تكتب : دراما اليوم: انعكاس للواقع أم تشويه له !؟
في إحدى محاضراتي عن الدراما وعناصرها الأساسية، كنت أشرح لطلابي أهمية الفكرة كمحور البناء الدرامي وأساس نجاح أي عمل فني. استرسلت في الحديث عن ضرورة أن تكون الفكرة متجذرة في القيم الإنسانية والاجتماعية، تعكس الواقع بعمق أو تقدم رؤية لإصلاحه. وبينما كنت أتحدث بشغف عن البناء الدرامي وتأثيره، استرجعت في ذهني مشاهد من بعض الأعمال الدرامية التي اجتاحت الشاشات مؤخرًا، مثل “نقطة سودة” و”وتر حساس”، تذكرت حواري مع شقيقتي الغالية “أمل” وطلبها الخاص الجمعة الماضية أن أكتب عن هذا الموضوع اللافت للنظر،
توقفت للحظة، متسائلة: هل يمكن لهذه النماذج أن تمثل بناءً دراميًا يخدم المجتمع؟ أم أنها مجرد صور تضخم السلبيات وتنشر قيمًا دخيلة لا تمت لثقافتنا العربية بصلة؟
لا يمكن إنكار أن هذه الأعمال التي تصدر قيما سلبية قد حققت نسب مشاهدة هائلة، حتى أصبحت حديث الساعة في المجتمعات المصرية والعربية. الحلقات تناقشها العائلات حول مائدة الطعام، والشخصيات تُقتبس في حوارات الشباب، بل وتُترجم الأحداث إلى منشورات وصور متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الانتشار الواسع يؤكد أن الدراما لا تزال أحد أقوى أدوات التأثير الثقافي والاجتماعي، لكن السؤال يظل قائمًا: ما نوع التأثير الذي تتركه هذه الأعمال في نفوس المشاهدين؟
إذا أخذنا مسلسل “نقطة سودة” كمثال، نجد أن العمل يغوص في عالم مليء بالخيانة والشك والتلاعب بالعلاقات. المسلسل يُظهر العلاقات الأسرية والعاطفية وكأنها سلسلة متواصلة من الصراعات والخيانات، مما يزرع بذور الشك في نفوس المشاهدين. تتوالى الأحداث بشكل يجعل الخيانة تبدو عنصرًا دراميًا جذابًا، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف الثقة بين الأزواج والأصدقاء. هذه الصور لا تكتفي بإثارة الجدل، بل تترك أثرًا نفسيًا عميقًا، خاصة لدى الشباب الذين ينظرون إلى هذه العلاقات كواقع طبيعي أو مبرر للتصرفات السلبية.
أما مسلسل “وتر حساس”، فإنه يقدم نموذجًا مختلفًا من التشويه، حيث يغرق في تصوير التفكك الأسري والانحدار في العلاقات الاجتماعية. الشخصيات تعيش في عزلة عاطفية، وتبدو منفصلة تمامًا عن محيطها الأسري. العلاقات بين أفراد العائلة تُعرض وكأنها خالية من الحب والتفاهم، مما يعكس صورة قاتمة للعلاقات الأسرية. هذا النوع من المحتوى، وإن بدا للبعض مثيرًا أو مشوقًا، يحمل رسائل خطيرة. فهو يُطبع فكرة أن التفكك هو الحالة الطبيعية للأسرة، مما يُضعف مفهوم الأسرة كحاضنة اجتماعية للأطفال والمراهقين، ويؤثر بشكل مباشر على فهمهم للعلاقات الصحية.
إن تأثير هذه الأعمال لا يتوقف عند حدود العلاقات الفردية، بل يمتد ليشمل القيم الاجتماعية العامة. عندما تُعرض صور للتفكك أو تُبرر الأفعال غير الأخلاقية تحت ستار “الواقعية”، تتحول الدراما إلى أداة لتطبيع هذه السلوكيات في المجتمع. والأسوأ أن هذه الرسائل تُعرض في بيئة منزلية حيث تجتمع الأسرة لمشاهدة المحتوى ذاته. النتيجة؟ رؤية مضللة للحياة الأسرية يتبناها الأطفال والمراهقون، وقد تؤدي إلى تغيير مفاهيمهم بشكل جذري.
السؤال هنا: هل المشكلة في المنصة أم في المحتوى؟ الحقيقة أن المنصات الرقمية أو التلفزيون ليسا المشكلة، بل الرسالة التي تُبث من خلالهما. يمكن لهذه الوسائل أن تحمل قصصًا إيجابية، تعزز القيم وتدفع للتغيير البناء، أو أن تتحول إلى أدوات لنشر القيم السلبية وإضعاف الهوية الثقافية.
عندما ننظر إلى الدراما من منظور أعمق، نجد أنها سلاح ذو حدين. يمكنها أن تكون أداة للإصلاح المجتمعي، تسلط الضوء على القضايا الحقيقية وتلهم الأفراد للعمل من أجل مجتمع أفضل. لكنها قد تتحول أيضًا إلى وسيلة لتشويه الواقع، تضخيم السلبيات، وتصدير نماذج دخيلة لا تنتمي إلى ثقافتنا.
ختامًا، يبقى الدور الأكبر على صناع الدراما. هل يدركون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم؟ الدراما ليست فقط مرآة تعكس الواقع، بل هي قوة هائلة قادرة على تغييره. وإذا استخدم هذا الفن بإدراك ووعي، فإن الشاشة لن تكون مجرد نافذة على قصص عابرة، بل أداة لصناعة مجتمع أفضل وأكثر تماسكًا، يحافظ على قيمه وهويته وسط عالم سريع التغير.
——
مدير مركز التدريب والتطوير – مدينة الانتاج الاعلامى