رأفت السويركي يكتب: قراءة استشرافية في دلالات مخبوء نتائج الانتخابات الأميركية
ينبغي إجراء القراءة الاستشرافية في نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة التي أعادت الرأسمالي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأميركية؛ ليحل في سُدَّة الحكم عبر الحزب الجمهوري بدلاً عن “كامالا هاريس” المرشحة عن الحزب الديموقراطي.
ومن ضرورات تلك القراءة الَّا تهتم بمتابعات أجهزة الإعلام حول ثيمة الصراع النمطي بين الحزبين الكبيرين بهويتهما الرأسمالية العميقة؛ باعتبار أن نوعية الكينونة السياسوية الأميركية تمثل العنصر الفاعل في نهج التطور للرأسمالية نظاماً متغلباً في الوجود.
ويأتي الطور الأميركي المنطلق للنهج العولمي ليتجاوز الطور الرأسمالي التقليدي القديم بثورة التصنيع الأولى في صورته البريطانية والفرنسية والألمانية؛ وترث الرأسمالية الأميركية تركة الرأسمالية القديمة فتقوم متغلبة بدولرتها سياسوياً؛ ولاحقاً بـ”بيتكوينها” افتراضوياً؛ انتسابا إلى العملة الافتراضوية “البيتكوين” وأمثالها.
*****
انتهت الانتخابات؛ وأصبحنا أمام حالة تُقَدِّم للعقل التفكيكوي مُتَخَيَّلاً سياسوياً يَفْتَرِض ويحتاج إلى قراءة جديدة غير نمطية؛ تحاول اكتشاف “المضمر المسكوت عنه” في وضعية المسألة الأميركية المهيمنة؛ والمنظور إليها من زوايا متعددة حسب مناهج القراءة الواجبة.
لن نغرق في إجراء تفكيك تفاصيل عملية الانتخابات الأميركية ونتائجها وما أحاط بها من أحداث؛ ولكننا سنهتم بقراءة مؤشر مهم للغاية لم يهتم به الكثيرون؛ وهو التمازج المثير بين الرأسمالي الدولاري “دونالد ترامب” والرأسمالي العَقْلِي”إيلون ماسك”؛ لنستدعي مثالاً شعبوياً من اللغة الدارجة المصرية منطوقه: “إيه اللي لَمِّ الشَامِي عَ المَغْرِبِي”؛ أي ماذا يجمعهما؟
لا نريد أن يتم استدراجنا للارتكان إلى القول بأن “إيلون ماسك” مُعجب ومُحِب لـ “دونالد ترامب”؛ وأنه قام بتوظيف منصة “إكس X” كمالك لها… لتوجيه المشاعر والاهتمامات تجاه اختيار ترامب رئيساً؛ فالرأسمالي مسلكيَّاً لا تحركه العواطف ولكن الأرباح وتوظيف الأموال في تنمية ثروته؛ والمعروف أن إيلون ماسك في حقيقته هو ملياردير ثقيل بالأصول التي يستحوذ عليها (300 مليار دولار صافية وفق مجلة فوربس). وتضم أجندة ثرواته:
– شركة “Tesla تسلا” صانعة السيارات الكهربائية؛ وتسريع تحول العالم للطاقة المستدامة.
– شركة ” The Boring Company” الخاصة بإنشاء الأنفاق؛ التي تستهدف مستقبلياً السفر بسرعة تبلغ 700 ميل في الساعة عبر ما أسماه “هايبرلوب” في تلك الأنفاق.
– شركة ” X” أو منصة تويتر؛ وقد اشتراها إيلون ماسك من مالكها مقابل 44 مليار دولار لتكون فضاءً مفتوحاً للتعبير عن الرأي؛ يتناسب وتصوراته الشخصية للفضاء الكوني المفتوح.
– شركة ” XAI إكس إيه آي” الخاصة بالذكاء الاصطناعي، الذي يسعى للتغلب على الذكاء البشري؛ ويكون بديلاً عنه.
– شركة “Neralink نيورالينك” المتخصصة في التكنولوجيا العصبية – وهي مربط الفرس هُنا كما يُقال – بسعيه لتطوير “شريحة ماسك الدماغية”؛ والتي توضع في الجمجمة البشرية فترتبط بالحواسيب والهواتف الذكية. وبحسب موقع“ibelieveinsci” العلمي فإنها تكون أدق 20 مرة من شعر الإنسان العادي وبحجم العملات النقدية؛ إذ تقوم أسلاكها بترجمة إشارات الدماغ عبر استشعار حركة الأعصاب به، لتترجم الأسلاك هذه الحركات في صورة إشارات تنقل البيانات إلى أجهزة الكمبيوتر فيقوم العلماء بتحليلها؛ ما يعني السيطرة الحاسوبية على حركة الدماغ بالتدريج.
وهذه الشرائح حسب إيلون ماسك تمثل مستقبل التعايش المتناغم بين الدماغ البشري وأجهزة الكمبيوتر؛ لتُستخدم ظاهرياً في علاج أمراض الشلل النصفي والعمى والزهايمر وباركنسون، وزرع الأطراف الاصطناعية واستبدالها، وفي حقيقتها أنها تكون الشريحة التي تُدَشِّن خطوة استصناع “الإنسان الخارق”. ما يعني أن الأمر المضمر هو استصناع الإنسان الكوكبي الجديد المجهز للغزو الكوني!
– شركة “SpaceX سبيس إكس” الخاصة بتقنيات استكشاف الفضاء؛ والتي تعمل على تصنيع وسائل الطيران والنقل الفضائي مستهدفة في الأجندة استعمار المريخ.
وبذلك فإن تفكيك الحالة؛ يقتضي التقرير بثقة أن نتائج الانتخابات الأميركية تُبشر ببدايات التطور النوعي غير القُطْرِي للاقتصاد العولمي عبر مظلته الأميركية. فهي خطوة البداية التي تحاول تجاوز العَوَار الذي أصاب الاقتصاد الرأسمالي الأميركي التقليدي في صورته الدولارية؛ وها هو يتداعي أمام التوحش الاقتصادي الصيني بمكونيه الرئيسين( الدولاتي والخاص)، وكذلك الروسي عبر “مظلة البريكس”؛ والتي تستهدف تجريد الدولار الأميركي من هيمنته، نتيجة تداعيه بأعباء الهيمنة على العالم؛ وتكاليف الحروب والصراعات التي يخوضها الجيش الأميركي في أطراف العالم منذ عقود عديدة.
*****
إن تمازج ثيمة ( دونالد ترامب – إيلون ماسك) يمثل تطوراً نوعياً في اللعبة الاقتصاد / سياسوية الأميركية؛ وتلوح لنا بِعَلَمِ “العولمة الجديدة” في صورتها الاقتصادوية غير التقليدية؛ وبقدر ما تضع عيونها على الاقتصاد الأرضي بكل محدوديته في الموارد تُحلِّق باتجاه الاقتصاد الفضائي الممتد باتساع الكواكب.
فـ (ترامب) الرأسمالي السياسوي عبر تجربته السابقة في البيت الأبيض لا يمثل لغزاً تجاه العقل القارئ؛ ولكن (ماسك) الرأسمالي المعلوماتي يبشر بتجربة اقتصادوسياسوية نوعية جديدة؛ مُنطلقاً من التجارب الاستثمارية التي يلعب في حقولها. لذلك فتحليل ذهنية إيلون ماسك تكشف طبيعة عقليته التي سيخوض بها المعمعة السياسوية ويكشف عقليته بقوله: “نحن مقاولون ولسنا سياسيين. نحن نخفض في الكلفة”!
وقد ذكر”إيلون ماسك” كما نشر في منصته ( X) تويتر أن: “الخيارات العادية تقود أميركا إلى الإفلاس، لذا نحن بحاجة إلى التغيير”. ومعنى كلامه أن ملامح التغيير الجديد تلك ينبغي وضعها في إطار التوجه المغاير للأنماط القديمة وتجاوزها على الصعيدين الاقتصادي والسياسوي؛ وسوف تتركز بداية هذا التوجه فيما أعلنه دونالد ترامب بإنشاء “وزارة الكفاءة الحكومية“.
وهذه الوزارة التي سيرئسها إيلون ماسك سعياً لتحقيق: ترشيد عمل الحكومة الأميركية ووكالاتها الفيدرالية عبر تفكيك بيروقراطيتها؛ وتقليص أنظمتها وإعادة هيكلة حجم إدارتها، وتبسيط القواعد؛ ما يعني خفض الإنفاق. وهو ما يمثل مسلكية رأس المال بتحقيق الربحية بأدنى المصروفات. وسيجسدها منطق “حكومة أصغر وفاعلية أكثر” وهو ما سيفيد الاقتصاد الأميركي والشركات الكبرى التي تمثل ماكينات هذا الاقتصاد الرأسمالي.
وهو يناور سياسويا بقوله أنه يهدف إلى توفير مئات مليارات الدولارات في النفقات الحكومية للتخلص من البيروقراطية التي تشكل “تهديدا وجوديا” للديموقراطية الأميركية. لذلك فمشروعه “الجذري” لإصلاح السلطات الفيدرالية سيشمل صرف عدد كبير من الموظفين الرسميين وخفض النفقات.
فهل يبدأ العقل الاقتصادسياسوي الأميركي في صورته الرأسمالية الجديدة العمل على تغيير نمط النهج الحكوماتي المدير للأمور ومحاولة منازعتها فتجريدها من الهيمنة؛ بما يساهم في تهميش نسقها كخطوة تسبق التعطل لاحقاً، والبدء بتخليصها من عِلَّة الاسترخاء الوظائفي ليتحول إلى عنصر أكثر فعالية في تجهيز البيئة لخدمة رأس المال الفاعل؛ ولاحقاً سيكون مُنضَبِطَاً بالشرائح المضمرة والمُسيَّرَة بالذكاء الاصطناعي. ومن بخلاف إيلون ماسك يمكن أن يخوض هذه التجربة التي بدأ العمل عليها في شركاته؟
*****
إن المؤشر المهم في المرحلة الترامبية الجديدة هو قصدية اختيار يوم الذكرى الـ 250 لتوقيع “إعلان الاستقلال الأميركي” ليكون فرصة تنفيذ وعده الانتخابي كذلك بـ “جعلالولايات المتحدة -عاصمة العملات المُشَفَّرة – على هذا الكوكب“.
ويعكس ذلك تعبير” Doge دوجكوين “كإسم عملة مشفرة، أنشئت حسب المصادر كإصدار هزلي للسخرية من “البيتكوين“؛ ولكن إيلون ماسك قام بالترويج لها في إطار العملات الافتراضوية مثل “البيتكوين” كعملة رقمية غير صادرة عن بنك مركزي أو دولة أو هيئة تنظمها وتدعمها. وقد تجاوزت الآن قيمة هذه العملات الإجمالية في العالم 167 مليار دولار حسب الدراسات الاستقصائية.
والطريف أن ماسك جعل اسم وشعار هذه العملة الرقمية في صورة Shiba Inu “كلب شيبا إينو”؛ وهو ـ حسب المراجع ـ من سلالة يابانية “ذكية ومطيعة وظريفة”؛ ومتخصصة في الصيد بـ “أجسامها الصغيرة القوية وشجاعتها ونبلها ووفائها لمالكها طيلة حياتها؛ ولا تقبل تغييره. فهل نفهم السر الخفي الكامن في بدء تعميم ماسك لهذه الثيمة؟
إن “البيتكوين والدوجكوين” هي محض عملات تتجاوز القيم الدولاراتية الحاكمةالمنهكة؛ وتمثل الاقتصاد الخفي باعتبارها “مفاتيح رقمية مسجلة في محفظة رقمية ويمكنها أن تدير التحويلات”. وتطبيقاً – عكس الشائع في العالم – مَنَحَتْ هيئةُ سوق المال الأميركية الموافقة لشركتين عاملتين في أنشطة الأوراق المالية بالبدء في إتمام عقود مالية بعملة “البيتكوين“.
إنها كما قيل “فلسفة التغيير الشاملة التي يدفع بها ترامب ليقود مرحلة أميركية لتحولات عولمية جديدة؛ اختار لها فارساً اسمه “إيلون ماسك” بكل تاريخه الخاص؛ والذي يُبشر بخوض تجربة جديدة تفتح الأبواب لبدء تجليس نمط الاقتصاد العولمي من المنظور الأميركي، عبر الحزم والحسم والتحليق في فضاءات غير متوقعة؛ وتعظيم الربحية الهائلة انطلاقاً من العمل المغاير في الكوكب الأرضي لينطلق إلى الكواكب المحيطة ولعل البداية تكون بالمريخ.
*****
حضور إيلون ماسك في الانتخابات الأميركية عبر القراءة التفكيكية يعتبر وفق الأسطر السابقة مؤشراً لتوجه جديد مخبوء، وضعت مكاتب التفكير الأميركية العميقة الـ ( Think Tanks ) ملامح تصوراته لمتخيل الحياة الساعي لترسيخ مفاهيم مرحلة جديدة؛ من أجل تمكين النهج العولمي الأميركي في الاستغلال والاستعباد الجديد؛ بتطبيق الهيمنة النوعية “الروبوتية” وفق استخدامات “الذكاء الاصطناعي” عبر الرقائق المستزرعة في أدْمِغَةِ البَشَر؛ وفي تعميم العملات الافتراضوية المناسبة للعولمة والاقتصادات الجديدة الخارجة عن الواقع، وكلها من مشروعاته التطبيقية.
لذلك يكون “إيلون ماسك” بهذه القراءة الاستشرافية الرجل المناسب للمهمة المناسبة وفي الزمن المناسب؛ فلنرَ ماذا ستأتي به “السنوات الترامبية”؟!