حازم البهواشي يكتب: الغزالي وسبعة أعوام بعد المائة
حين وُلد الشيخ “محمد الغزالي” في قرية نِكلا العنب بمحافظة البحيرة في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1917م لم يكن أحدٌ يدري أن هذا المولودَ سيكون فارسَ الدعوة الإسلامية في القرن العشرين، غيرَ أن والده كان يحدوه الأمل أن يصيرَ ابنُه حُجةً للإسلام، فسماه “محمد الغزالي” تيمنًا بـ “أبي حامد الغزالي” ( 450 هـ _ 505 هـ )، ودعا اللهَ أن يكون مثله.
بين وفاة “الغزالي أبو حامد” ( 1111م ) وميلاد “الغزالي محمد” ( 1917 م ) ثمانمائة وستةُ أعوام، ورغم كل هذه الأعوام إلا أن سيرة “الغزالي” الكبير ظلت بين الناس حتى تمنَّوا أن يكون أولادُهم مثلَه؛ ذلك أن الإخلاصَ يكتب الحياةَ لصاحبه وإن انتقلَ من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وأحسب أن الشيخ “محمد الغزالي” _ ولا أزكيه على الله _ كان من المخلصين للدعوة، تلحظ ذلك وتلمَسُه في كتاباته التي لا تخطئ عينٌ ولا يَشُك عقلٌ أنها كُتِبت بنياط القلب، يشعرُ صاحبُها بما يكتب بل ويَعيشُه، فهو يكتبُ عن الإسلام كتابةَ المحامي الذي يَثق في عدالةِ قضيتِه، بل ويفهم أبعادَها ويعيش كلَّ ما يتعلقُ بها، ويكتبُ عن سيرة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بأحاسيسَ مُرهفة تعي وتُقدر مدى ما بذله صاحبُ الرسالة مِن جُهدٍ حتى كاد يُهلكُ نفسَه حِرصًا على هدايةِ الناس.
يكتب “الغزالي” عن عِلَلِ الأمة كتابةَ خبير، ويصف الدواءَ لهذه العِلل وَصْفَ طبيبٍ ماهر يُلِمُّ بتاريخ المريض. إنه متحررٌ إلا من كتابِ الله وسُنَّةِ رسوله، ومِن منطلق هذه الحرية وكُرهِه للتسلط كتبَ عن (الإسلام والاستبداد السياسي)، تأملْ معي هذه الفقرة من الكتاب: “… وكما خُلِقَتِ العينُ للبصر، والأُذُنُ للسَّمع، وكما خُلِقَ لكل جارحةٍ أو حاسة وظيفتُها التي تُعتَبرُ امتدادًا لوجودِها واعترافًا بعملها، كذلك خُلِق الإنسانُ ليُعَز لا ليُذل، وليُكرم لا ليَهون، وليُفكر بعقله، ويَهوى بقلبه، ويَسعى بقدمه، ويَكدح بيده، لا يَشعرُ وهو يُباشر ذلك كلَّه بسُلطانٍ أعلى يَتحكمُ في حركاتِه وسكناتِه إلا الله الفرد الصمد، ربه، ورب الناس أجمعين!”.
ولعلك حين تقرأُ للغزالي _ ولا غنى لمسلمٍ عمومًا، ولداعيةٍ خصوصًا عن أن يقرأ له _ تقع في حيرة فهو نسيجُ وحدِه في كتابة أفكارِه بلُغةٍ رفيعةٍ واضحة، وهو مع ذلك صاحبُ مشاعرَ فياضة جعلتْ من مُحاضرةٍ لم يتحدثْ فيها أبلغَ محاضرةٍ عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _، إذ بدأ حديثَه وقال: ( مِثلي أنا يتحدثُ عن سيدنا محمد _ صلى الله عليه وسلم _!!! ) ثم أجهشَ بالبكاء الذي أغنى عن كل كلام ودلَّ على أن الشيخَ يعيش سيرةَ رسولِ الله، وليس موظفًا يتقاضى أجرًا عن عمله!!
حين تقرأ للغزالي لا بد أن تشك أولًا في أن هذا الأسلوبَ لشيخٍ أزهريٍّ مُعَمَّم، إنه أديبٌ من أدباءِ الصف الأول، نهلَ من قديمِ وحديثِ كُتُب الأدب، ولولا جهلُه باللغاتِ الأخرى لكان له شأنٌ آخر، كما قال لي والدي _ رحمه الله _ نقلًا عن الشيخ في إحدى المحاضرات بكلية الشريعة والقانون.
كلماتُه حِكَمٌ صالحةٌ للحِفظ والاستشهاد، وأسلوبُه يتملكك حتى تستطيعَ بعد ذلك أن تقول: هذا من كلام الغزالي؛ فاللغةُ شاعرة، والأسلوبُ رائق، والفِكْرُ أصيل، والصدقُ ظاهر، والإيمانُ صادق.
تأملْ معي هذه العبارات ولتدعُ للشيخ بالرحمات:
_ ” القرآنُ الكريم كتابُ الله الذي أحيا أمة ًمن العَدَم تحوَّلَ لدى بعض المسلمين إلى كتابٍ للموتى، يُقرأ في الجنائز أو يُوضعُ على تابلوهات السيارات للزينة، أو على أرففِ المكتبات،…. في حين أن القرآنَ نزلَ ليُقرأ،…والقراءةُ في جميع اللغات تعني الفَهمَ والتدبرَ والعملَ بما نفهم”.
_ “الإسلام يُريدُ رجلاً جيّاشَ العاطفةِ بالعطاء، صادقَ الحِسِّ بآلامِ الغير, يَنطلق كالسهم في تفريجها دون توقُّف، ولو كان يتعاملُ مع غير أبناءِ دينه، إن النبعَ السيّال لا يَحبس بِرَّه عن مُحتاج).
_ ” كل تديُّنٍ يُجافي العِلمَ, ويُخاصِمُ الفِكْر، ويَرفُضُ عَقْدَ صُلْحٍ شريفٍ مع الحياة هو تديُّنٌ فقدَ كُلَّ صلاحيتِه للبقاء”
_ ” الحرية ُ هي حقُّ الإنسان أن يَحيا وَفـق َ خصائصِه العُليا، لا حقَّ الحيوان أن يَعبثَ وَفق َ شهواتِه الدنيا “.
_ “إذا كان الدِّينُ مُخدِّرًا للشعوبِ في بعض الأقطار، فالدِّينُ في بلاد الإسلام مُنبِّهٌ للشعوب وحاثٌّ لها على مقاومةِ الظلم، وإشاعةِ العدل، وتعميمِ الرحمة، ومنعِ الجُوع، واستنكارِ البَطَنَة والترف”.
_ ” إذا كان سكوتُ العُلماءِ عن فِسْقِ الحُكَّامِ جريمة، فإنَّ تمدُّحَ العلماءِ للحُكَّامِ الفَسَقة كُفرانٌ مُبين “.
_ ” إن المؤمنين الأقدمين كانوا يُمثلون جيلًا من أحرار العقول وكبار القلوب، كانوا في أسواق المال وساحات القتال جن سليمان، فلما نصرهم الله بعد محنتهم ملأوا الدنيا حضارة ونضارة “.
رحم اللهُ فارسَ الدعوةِ وأديبَها.