مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: ومتى يراجع العلمانيون أنفسهم؟!

يتوهم العلمانيون المصريون أنهم يحتكرون الحقيقة ويستأثرون بها دون غيرهم. هم لا يملكون دليلاً “ماديًا” واحدًا على ذلك! يزدرون المتدينين والمحافظين والقابضين على دينهم دومًا، ويتهمونهم بالنمطية والاستسلام للقديم والخضوع له، وعدم قدرتهم على إعمال العقل والتفكير مثلهم! ويحتفون بكل مظاهر الانحلال والانفلات ويصفقون لها، ويحرضون على تعميمها، كما يضغطون على غيرهم من أصحاب التيارات المخالفة لهم بضرورة مراجعة أفكارهم وقناعاتهم والثورة عليها وإعادة بنائها من جديد، كما فعلوا هم من قبل!
ووسط هذه الحالة الطاووسية المفعمة بالنرجسية..لا يراجع هؤلاء العلمانيون أنفسهم ولا أفكارهم، ولا يعترفون بخطأ ولا يقرون بخطيئة، ويعتبرون قناعاتهم هي الحق المبين والكتاب المستبين والصراط المستقيم..وهذا منهج- تاللهِ-لا يستقيم، وهو أقرب إلى مسالك الشياطين!
كيف يطالب العلمانيون الآخرَ- بكل طوائفه وتنويعاته- بأن يراجع أفكاره ويثور عليها؛ تمهيدًا لاعتناق مخرجاتهم وآرائهم وقناعاتهم سابقة التجهيز التي هي ليست من إبداعهم، ثم ما الذي يضمن صلاحيتها، ولماذا لا يكونون هم المخطئون، ولماذا لا يراجعون هم أنفسهم، ويصوبون مساراتهم الملتوية، ويصححون دروبهم المعوجَّة؟
الفترة الأخيرة شهدت مواقفَ عديدة عكست تناقضات هذه الطائفة المتطرفة فكريًا وفساد عقول أتباعها وتهافُت منطقهم، فضلاً عن غضبة شعبية جارفة ضدهم؛ ما يستوجب عليهم أن يأخذوا زمام المبادرة وأن يبدأوا بهذه المراجعات الفكرية قبل غيرهم.. هم أولى بها وأكثر احتياجًا لها من غيرهم..أتأمرون الناس بالبر وتنسوَن أنفسكم؟ أنتم أولى بطبيعة الحال. أنتم المرضى الحقيقيون وليس غيركم.
القراءة الدقيقة للمُنتجات العلمانية المصرية فى السنوات الأخيرة، وجميعها متشابه متناسخ فاسد، يجعلها فى مرمى الاتهام والشبهة والرِّيبة؛ لا سيما أنها لم تطرح جديدًا أو مختلفًا، وإنما تنقل وتكرر ما قدمه مستشرقون غربيون متطرفون في كراهيتهم للإسلام من عشرات العقود.
بطبيعة الحال، فإنَّ مثل هذا الطرح لن يروقَ لهم، بل سوف يراوغون فى التعاطي معه، كما تروغ الثعالب..مع خالص الاحترام والتقدير للسادة الثعالب والضباع والذئاب؛ فهم جميعًا أكثر احترامًا وعقلانية واعتدالاً!
هم ينتقدون ويسخرون ويستهزئون ويغمزون ويلمزون ويغتابون ويتنمرون ويبتزون ويبتذلون ويكذبون ويبالغون في الكذب ويطلقون لأنفسهم “الحبل على الغارب”. يرون أنفسهم فوق النقد والتقييم، ويعتبرون ذواتهم مُنقذين من الضلال، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، هم لم يتحرَّوا رشدًا، ولن يتحرُّوا، وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون. وفي المقابل..فإنهم يرفضون نقدهم وانتقادهم وتقييم خطابهم المتداعي وتحليله في أقرب معمل تحاليل!
لو كانت النوايا حسنة، والضمائر صافية، والقلوب صادقة، لاجتمع العلمانيون المصريون على قلب رجل واحد، وطرحوا رؤية متكاملة ومهذبة للتجديد للمنشود، الذى يواكب المستجدات العصرية، ولا يخالف دينًا، ولا يهدم شريعة، ولكنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، حتى تبقى المعركة الوهمية مُستعرة، والحرب الافتراضية مُشتعلة، ويضمنوا خلودًا لروافدهم المادية والمعنوية، فى الداخل والخارج، ويظهروا في ثياب المجددين ..قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هم أثرياء الفتن، يخشون أن تنفد بضاعتهم، وتخلو مخازنهم، فلا يبيعون ولا يبتاعون، ولا تطلبهم الفضائيات المحلية والمنتديات الأجنبية، ليطعنوا فى الإسلام وعلومه وتراثه وعلمائه، باعتبارهم رُسلَ التجديد وأنبياءه، عبر خطاب هُلامى خُرافى تجديفي عشوائي يفتقد إلى أبسط درجات الأدب والذوق ويذخر بالاستظراف والاستخفاف والردح و”الشرشحة”، وينزح من آبار آسنة بائسة!
الخطاب العلماني هو الأوْلى بالتجديد مما سواه. تفكيك الخطاب العلماني فرض، وإعادة بنائه ضرورة، ومراجعة العلمانيين لأنفسهم واجبة. العلمانيون المصريون ليسوا فريقًا واحدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، لا يولون وجوههم وأفئدتهم إلا شطر المصلحة الشخصية. الفكر العلماني المصري، بصورته الحالية، فيه سمٌّ قاتلٌ، لا خير فيه ولا جدوى، أشبه بسرطان يتمدد ليفسد، ويتوغل ليقتل! هم يريدونها فوضى، العلمانية فى حقيقتها ليستْ فوضى ولا شتائمَ ولا تجاوزاتٍ لفظية، ولا استعراضاتٍ سوقية، ولا تهكمًا على أهل العلم والاختصاص ومن يقولون: “ربُّنا الله”، ولا منشورات خبيثة وقبيحة ووقحة وبذيئة ورديئة على مواقع التواصل الاجتماعي.
أفرغ العلمانيون المصريون العلمانية الحقيقية من جوهرها ومحتواها، ما بين اتخاذها مطية لإحراز أهداف رخيصة، أو تحويلها إلى أيدلوجية ودين جديد يجبُّ أديانَ السماء، ولا سيما الإسلام! لقد نجحت العلمانية غربًا، لأنَّ العلمانيين الغربيين لم يتعاملوا معها بشكل تجاري بحت ورخيص، وفشلت شرقًا، لأنَّ العلمانيين المصريين والعرب تعاملوا معها باعتبارها “دجاجة تبيض ذهبًا” فى جيوبهم وخزائنهم وحساباتهم البنكية. في الغرب.. لعبت العلمانية دورًا إيجابيًا في تسهيل انتقال أوروبا من العصر الوسيط إلى العصور الحديثة، وأسهمت إلى جانب العقلانية والمعرفة العلمية الوضعية الجديدة في تغيير الرؤية القديمة إلى العالم وفي نقل السياسة من السماء إلى الأرض فأصبحت شأنًا إنسانيًا خالصًا. وفى الشرق، ومصر تحديدًا، تم توظيفها لزعزعة عقائد الناس، وتشتيت أفكارهم، وتحريضهم على الانحراف الديني والفكري والأخلاقي، بدعوى التحرر وإعمال العقل! لم تعد إشكالية “العلمانية والدين” مطروحة في الغرب إلا بما تُحيل عليه في عالم السياسة، أي لم تعد مشكلة ولا حلاً ولا قضية خلافية؛ لأنَّ الواقع تجاوزها، لكنَّ حالها في مصر مختلف، حيث لم يتمكن المنتسبون إليها قسرًا وظلمًا وزروًا من إنجاز الحداثة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، واعتبر العلمانيون المصريون معركتهم الأصيلة مع الإسلام وحده من دون الأديان جميعها. علمانيو مصر وعلمانياتها مدعوون قبل غيرهم لتجديد خطابهم وفكرهم أولاً. هم ينتحلون خطابًا كارهًا بالسليقة للإسلام من كتابات استشراقية بائسة بائدة تخلى عنها أصحابها وندموا عليها..بل إنَّ بعضهم تاب وأناب واتخذ من بعدها الإسلام شرعة ومنهاجًا! يجب أن تتبنى هؤلاء المرجفون المغرضوم خطابًا مهذبًا وقورًا مؤدبًا، وأن ينتهجوا فكرًا سديدًا رشيدًا مستقيمًا، لا يعرف عوجًا ولا أمتًا. فإن فعلوا ذلك فبها ونعمت، وإن لم يفعلوا فهم العدو فاحذروهم.

زر الذهاب إلى الأعلى