مختار محمود يكتب: “قول يا ألَم قول”!!

قد يصبر الناس عن الطعام والشراب، ولكن كيف تجبرونهم على الصبر القسري على نقص الدواء؟ شُحُّ الأدوية الأساسية والمهمة بلغ ذروته في الأيام الأخيرة. أدوية السكر والضغط والقلب والأورام والصراع والاكتئاب ومعظم الأمراض المزمنة أصبح البحث عنها مغامرة، والعثور عليها من رابع المستحيلات.أرفف الصيدليات ترفع شكواها إلى الله. عديد من الصيدليات تخلى عن العمل على مدار الساعة، واكتفى بنصف أو ثلثي يوم، وبعضها تعرض للإغلاق المؤقت أو التام؛ بسبب تراجع الأرباح بشكل كبير. كما إن كثيرًا منها خفف أعداد الصيادلة والديليفري؛ حيث لم يعد هناك ضرورة ضاغطة لهم. شباب الصيادلة اضطروا إلى تغيير نشاطهم، مثل: العمل في محطات البنزين أو مندوبي مبيعات، وبعضهم يحلم بفرصة سفر. رفاهية الحصول على روشتة بالتليفون صارت رفاهية. فكرة الحصول على مُبتغاك من الدواء من أول أو ثاني أو ثالث صيدلية أصبحت ماضيًا..”انسى يا عمرو”!! لا بد أن “تلف كعب داير” أولاً؛ لعل وعسى، وغالبًا سوف تعود بـ”خُفَّى حُنين”. الحمد الله أن الحكومة لم تلجأ بعدُ إلى خصخصة “خفي حنين” أو بيعهما لمستثمر خارجي؛ وحينئذ إذن سوف تعود بدونهما أيضًا!!
إذا سألت صيدليًا عن أي دواء، فإن الإجابة المحتملة الأولى سوف تكون ضحكة صفراء سخيفة مصحوبة بكلمة “ناقص جدًا ومش هتلاقيه..متتعبش نفسك” دون أن ينظر إليك، أو ينظر إليك شذرًا. أما الإجابة المحتملة الثانية فقد تكون صامتة؛ حيث يكتفي الصيدلي بمط شفتيه إلى الأمام أو شفطهما إلى الداخل، وإذا كانت صيدلانية فسوف تكون حركة الشفتين إلى اليمين واليسار معًا، ما يعني ضمنًا: “مش موجود”، أما الإجابة المحتملة الثالثة، وتحكمها علاقتك بالصيدلي، فهي: “متاح شريط واحد فقط..ممكن تمشِّي حالك بيه”، ولحظتئذ سوف تتنفس الصعداء..ونادرًا ما يحدث هذا!! وإذا سألت صيدليًا عن السبب وراء تفاقم أزمة نقص الأدوية الأساسية والضرورية، فإن الإجابة لن تخرج عن ثلاث، أولاها: بيع شركات الأدوية المصرية مثل: “سيد” و”آمون”، وثانيها: أزمة مفتعلة لرفع أسعار الأدوية رخيصة الثمن، وثالثها: عدم توافر السيولة الدولارية اللازمة!! والإجابة الأخيرة لم تعد وجيهة ولا منطقية بعد دخول دولارات “رأس الحكمة” خزائن البنك المركزي!
يوم الخميس الماضي..شاهدتُ عجوزًا في غسق الليل تبكي لصيدلي، وترجوه أن يتصرف لها في دواء القلب الذي لا يستغنى عنه زوجها المريض، ودوائي الضغط والسكر اللذين لم تحصل عليهما منذ 3 أيام، فيما كان الصيدلي مشغولاً عنها بمكالمة هاتفية، يبدو أنها كانت عاطفية، تاركًا إياه بلا حول ولا قوة!
من المؤكد أنك تابعت مؤخرًا عددًا من المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، يناشد أصحابها متابعيهم توفير جرعات من أدوية أمراض مزمنة وحالات شديدة الحرج. شخصيًا..رصدت هذه الرسالة: “إلى أصدقائي الكرام وكل من يحبني، أو يهمه أمري، أرجوكم أبحث عن هذا الدواء بأي سعر، ومستعد أن أدفع تكاليف التوصيل من أي مكان في الجمهورية”، وقد أرفق بمنشوره غلاف علبة دواء خاص بالأزمات القلبية!
المؤسف أن الأزمة امتدت أيضًا إلى أدوية البرد والسُعال، فضلا عن الفيتامينات والمُكمِلات الغذائية، التي لا تخضع أصلا للتسعيرة الجبرية الحكومية، باعتبارها أدوية غير أساسية، ومن ثمَّ شهدت هذه الأدوية أيضًا ارتفاعات متوالية دون رقيب أو ضابط، رغم أهميتها القصوى لبعض الحالات المرضية!
التقديرات الرسمية الصادرة عن جهات معنية مثل: الهيئة العامة للدواء تؤكد أن الأصناف الناقصة من الدواء تصل إلى ألف صنف، وهو رقم –كما تعلمون- عظيم؛ لا سيما إن كان معظم هذه الأدوية خاصًا بذوي الأمراض المزمنة والأقرب إلى الموت منهم إلى الحياة.
الإجابة الجاهزة عند الحكومة العاجزة تقول: إن تسعيرة الدواء لم تتغير منذ عام 2017، عندما كان سعر الدولار الواحد في البنوك 18 جنيها فقط، بينما يلامس السعر الرسمي الآن للدولار حاجز الخمسين جنيهًا، ما يجب أن ترتقع معه أسعار الأدوية إلى ثلاثة أضعاف!! ويبدو أن الحكومة قليلة الحيلة أرادت أن تصدِّر الأزمة للشعب أولاً، وتُشعرهم بمدى خطورتها وصعوبتها، حتى لا تجد أية ممانعة من رفع الأسعار لاحقًا، كما فعلت مع بعض المنتجات الغذائية منذ فترة، وهو ما تم تسريبه فعلاً خلال الساعات الأخيرة، حيث تم الإعلان عن حل الأزمة تدريجيًا بدءًا من مطلع الشهر المقبل، ولكن بعد رفع الأسعار بحد أدنى 25%، وهذه ليست الزيادة الأولى، فقد سبقتها زيادتان على الأقل. شراء روشتة تتضمن ثلاثة أو أربعة أنواع من الأدوية قد يتكلف ألف جنيه على الأقل، حال توافرها. وربما تجد نفسك مضطرًا إلى الاكتفاء من كل علبة بشريط؛ حتى لا تتعرض للحرج، وحتى لا ينفد ما تبقى معك من مال!!
الحكومة التي تتعامل باستخفاف مع هكذا أزمة، أو تلجأ إلى “تنشيف السوق” مثلما يفعل كبار المحتكرين من التجار، هي حكومة بلا قلب وبلا رحمة، وعليها أن تراجع نفسها وسياساتها، وتعيد حساباتها، وتبحث عن حلول عملية لتوطين صناعة الدواء في مصر، حتى لا تتكرر الأزمة العاصفة من جديد. آلام المصريين جديرة بالاهتمام وليس الاستخفاف والتجاهل والتسويف والمماطلة والمتاجرة يا حكومة!