مختار محمود يكتب: خرافة «اختلافهم رحمة»
مِن الأقوال المأثورة التي يرددُها العوامُّ، بل وأحيانًا خُطباءُ المنابر، وترزجية البرامج الدينية، وتجري مَجرى الحديثِ النبوي الشريف قولُهم: “اختلافُهم رحمَة”، هذا ليسَ حديثًا صحيحًا. “اختلافُهم رحمة”.. ليسَ من كلام الرسول الخاتم، ولا لأحدٍ من صحابتِه الكِرام، بل هوَ قولٌ منسوبٌ لأحدِ التابعين. لم تثبتُ صحةً الحديثِ المزعوم في أي كتابٍ من كتُب الأحاديث المُعتمدة، حيث لم يرد ذِكرُه في الصحيحين. “اختلافُهم رحمة”.. لم يرد أيضًا في الكتب الست، ولا في غيرها من الكتب التي اعتمدها المُحدثون في الدرجة الأولى، أو أدرجوها في الدرجة الثانية، لكن معَ تعاقُبِ السنينَ صارت تلكَ العبارةُ –كما صار آلافٌ غيرُها- حديثًا يتخذُه الجهالُ تكئة لنشر جهلِهم وتبرير اختلافاتِهم.
المُسلمونَ يُعانونَ جَهلًا بغيضًا في شئون دينِهم. لا يبذلونَ الجهدَ لتعلُّمِه والاستزادةِ منه، لديَهم أولوياتٌ أهمُّ من الدينِ، يتركونَ أنفسَهم وذويهم فريسةَ لـ”هواةِ المنابر” و”مُرتزقةِ الأديان” “وترزجية الدعوة”. كثيرٌ من الدُّعاةِ والأئمةِ يبررون تعدُّدَ الفتوى وتضارُبَها وتناقُضَها في المسألة الواحدة بهذا الحديثِ الوهمىِّ: “اختلافُ أمتى رَحمة” أو “اختلافُهم رحمة”، ليس في الاختلافِ رحمةٌ. الرحمةُ في الاجتماع والاتفاق.
الاختلافُ جعلَ أمَّة الإسلام فِرقًا وشِيعَا..”فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”. الاختلافُ مزَّقَ أمَّة الإسلام، فلمْ تعدْ خيرَ أمةٍ، بلْ انسلختْ إلى الدركِ الأسفل منْ الأُمم أخلاقًا وحَضارةً وتمدُّنًا، الاختلافُ يجعلُ الحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا، والحقَّ باطلًا، والباطلَ حَقًا، والفرضَ سُنَّة، والسُّنة فرضًا، والواجبَ جائزًا والجائزَ واجبًا، والمُباحَ مكروهًا، والمكروهَ مُباحًا. الاختلافُ أهدرَ كلمة المُسلمينَ، فلم تعدْ كلمتهُم سواءً، كما أمرتْهم السَّماءُ، بلْ صارتْ كلماتٍ شتَّى ومُتضادةً ومُتداخِلةَ. لو كانَ هذا الاختلافُ موجودًا في زمن النبىِّ الكريم ما تركَ صناديدُ الشركِ دينهَم إلى دينهِ.
الاختلافُ قد يكونُ مقبولًا ومحدودًا فيما استجدَّ منْ مسائلَ وإشكالياتٍ وقضايا فرعية لم تكنْ مَوجودة مع نشأةِ الدعوة، أمَّا أنْ يكونَ الاختلافُ قائمًا في كلِّ مسألةٍ، وفي كلِّ إشكاليةٍ، وفي كلِّ قضيةٍ، وفي كلِّ فتوى، إنهم يختلفونَ في غُسل الجنابة، وتغسيلِ الموتى والوضوءِ والتَّيمُم..وموعد صلاة الفجر. ومن عجب أيضًا أن الخلاف والاختلاف يكونان داخل الإطار الديني والفكري الواحد!
هذا لا يُنشئُ دينًا، بل يخلقُ عالمَا منْ الفوضى، وهل هُناك أمَّة أكثرُ فوضى منْ أمةِ المُسلمين في العصر الحديثِ؟ هذا الاختلافُ هوَ الذي صنعَ من بعض المُنتسبين إلى الإسلامِ جماعاتٍ مُتنازعةٍ ومُتحاربةٍ ومُتطاعنةٍ. هذا الاختلافُ هو الذي جعلَ الدينَ الخاتمَ أديانًا عِدَّة، كلُّ دين يُكفِّرُ الآخرَ، وكلُّ دين يُبشِّرُ مُنتسبيه وأتباعَه بالنعيم المُقيم والحورِ العين، ويُنذرُ الآخرينَ بالويلِ والثبورِ وعظائمِ الأمور.
الإسلامُ دينٌ واحدٌ وليسَ حِزمةً من الأديان، و”محمدٌ” هو – وحدَهُ- رسولُ هذا الإسلام، لم يقاسمْه الرسالةَ رسولٌ غيرُه، وليس لـ”إمامٍ” أو “مُلَّا” أو “شيخ طريقة” أنْ يُعدِّلَ على ما تركه النبىُّ. وحىُّ السماءِ انقطعَ عن الأرضِ منذُ وفاة رسولِ الإسلام. صارَ في الإسلام مِللٌ ونِحَلٌ شتَّى، وفي الملَّةِ الواحدةِ اختلافاتٌ لا تنتهي.
نبىُّ الإسلامِ حذَّرَ منْ تفرُّقِ المُسلمين وتشرذُمِهم مِنْ بعدِه، الحديثُ النبوىُّ الصحيحُ يقولُ: “سَتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقة، كلُّها في النار إلا واحدةً، قيلَ: ومَنْ هي يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ما أنا عليه وأصحابي”. إذنْ.. نبىُّ الإسلامِ يقطعُ بأنَّ مُعظمَ الطوائفِ والجماعاتِ المنسوبةِ إلى الإسلامِ سوفَ يكونُ مصيرُها إلى النار، لأنَّها خالفتْ صحيحَ الإسلام، واتبعتْ أهواءَها..” وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ”.
الذينَ يدافعونَ باستماتة عنْ مشروعيةِ الاختلافِ في أصول الدين وفروعه، لا يشغلُهم أمرُ الدين في شئٍ، إنما تشغلُهم مصالحُهم الشخصية ومصادر رزقهم الواسعة. الاختلافَ هو الذي صنعَ أئمةً لكلِّ طائفةٍ، ومرجعياتٍ لكلِّ جماعةٍ. تهافتُ الاختلافِ يهزُّ صورةَ الدين ولا يُرسِّخُها. أسقطوا الأساطيرَ الدينية الزائفة. وطهِّروا دينَكم من أصنامِ الكذبِ والتدليس والاسترزاق. استئصِلوا منه التخاريفَ والأوهامَ والأباطيلَ، ثمَّ أعيدوه إلى سِيرتَه الأولى “دينًا قِيمَا”.