مقالات الرأى

محمد أمين المصري يكتب : اللاعبون الجدد في القوقاز

لم تكن الأزمة الآذربيجانية – الأرمينية، حاكمة لمنطقة النزاع فقط، وإنما تفاقمت لتصل إلى الدولة الأم وهي روسيا، فمن وجهة رأي الأرمن لم تكن روسيا على مستوى الصراع، فهي تخلت عن أرمينيا التي اعتمدت على موسكو قلبا وقالبا من أجل الحفاظ على إقليم ناجورنو كاراباخ الذي كان متنازع عليه بين آذربيجان وأرمينيا حتي أيام قليلة مضت.
موسكو حاولت احتواء الغضب الأرميني ولكن يبدو أن الأمور المستترة حتى وقتنا الراهن أكبر مما يتخيل البعض، فالكرملين سعى إلى تبديد التوتر في العلاقة مع يريفان، على خلفية

اتهامات أرمينية لموسكو بـخذلان الإقليم الذي استعادته القوات المسلحة الآذربيجانية وسكان كاراباخ وأغلبيتهم من الأرمن، وحاول الكرملين التأكيد على عمق التحالف مع أرمينيا، مبديا رغبته في المحافظة على الاتصالات الوثيقة مع رئيس الوزراء نيكولا باشينيان.

وتأخذ موسكو على باشينيان تصريحاته شديدة اللهجة وانتقاداته المريرة لأداء قوات حفظ السلام الروسية في كاراباخ، واتهمها بأنها لم تتحرك لمساعدة أرمن كاراباخ على وقف الهجوم الآذري. ولوح بالانسحاب من معاهدة الأمن الجماعي، التي تلزم أعضاءها بالتدخل في حال تعرض أي من البلدان الموقعة عليها لاعتداء خارجي.
تصريحات باشينيان وانتقاداته أثارت غضبا واسعا في موسكو، انعكس في حملات إعلامية وسياسية قوية ركزت على تحميله بشكل مباشر المسئولية عن إخفاقات السياسة الأرمينية، واتهمته بأنه حول بلاده إلى ساحة لـ”ألعاب الغرب الجيوسياسية”.. هذه الجملة الأخيرة كانت ضمن بيان للخارجية الروسية، ولم يكن الكرملين بعيدا عن خط المواجهة مع أرمينيا رغم محاولة موسكو عامة لم الموقف وتداعياته، وقال دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين إن موسكو ترفض بشكل قاطع أي محاولات لإلقاء اللوم في الوضع على روسيا وعلى قوات حفظ السلام الروسية.
الكرملين اعتبر انتقادات باشينيان تصل إلى درجة التوبيخ، ولكن سعى إلى تجاوزها وأكد أن قوات حفظ السلام الروسية تظهر بطولة حقيقية في أداء مهامهم وفقا للتفويض الموكل إليهم، مؤكدا أن أحد يمكن أن ينتقد قوات حفظ السلام والقول أنهم يرتكبون خطأ. موسكو حاولت تخفيف حدة الأزمة مع يريفان، فلجأت إلى التاريخ والوطن والإنسان، وهنا ذكّر الأرمن “تظل أرمينيا حليفتنا، وهي دولة قريبة إلينا، وشعبها قريب إلى الشعب الروسي. وأنتم تعلمون أن عدد الأرمن الذين يعيشون في بلادنا أكبر من تعداد سكان أرمينيا نفسها. سنواصل أداء وظائفنا، وسنواصل الحوار مع الأرمن، ومع باشينيان”.

لم يكن حديث الخارجية الروسية والكرملين كله استجداء للأرمن، فكان جزء منه توجيه انتقادات لأرمينيا، ومنها ما طال باشينيان نفسه وأنه
نفذ سياسات غربية، في إشارة مباشرة إلى واشنطن، وقال المتحدث باسم الكرملين إن روسيا تعارض محاولات تلك الدول التي ليست لديها إمكانات الوساطة في كاراباخ لترسيخ وجودها في المنطقة. موسكو لمحت إلى أن يريفان اتخذت سلسلة خطوات فاقمت من توتر العلاقات مع روسيا، من بينها حضور زوجة باشينيان مؤتمرا لدعم أوكرانيا أخيرا، فضلا عن مصادقة البرلمان الأرميني على نظام روما الأساسي، الذي يمهد لانضمام يريفان إلى محكمة الجنايات الدولية، ما يشكل تحديا جديدا لموسكو، وهو يظهر درجة اتساع الهوة بين البلدين بعد “حياد” روسيا خلال هجوم أذربيجان على كاراباخ.

ويعود غضب موسكو من هذا الإجراء أن المحكمة الدولية أدرجت منذ أشهر الرئيس الروسي على لائحة المطلوبين، وأصدرت مذكرة توقيف، شملت بالإضافة إليه، مفوضة حقوق الطفل الروسية، ماريا لفوفا بيلوفا، بزعم تورطهما في الترحيل غير القانوني للأطفال الأوكرانيين.
وطبيعى أن تري موسكو صنيع يريفان بإطلاق عملية التصديق على نظام روما الأساسي جزءا من سلسلة الخطوات غير الودية التي اتخذتها القيادة الأرمنية.

نعود إلى الغضب الروسي من أرمينيا، فالأزمات تلاحق الروس من حرب أوكرانيا وعداء غربي وأمريكي ومعارك يومية لم تكن كلها انتصارات، فموسكو لم تكن بحاجة إلى تجدد الصراع الآذربيجاني – الأرميني في الوقت الراهن، فلدى روسيا ما يكفيها من صعاب ومشكلات وأزمات، ويرى حكام روسيا أن الأرض تنسحب من تحت أقدامهم، فحرب أوكرانيا لم تعد مجرد نزهة يعود فيها الجنود حاملين الأرض الأوكرانية، ولكن الأمر تبدل تماما فلم يذهب الشعب الروسي عن بكرة أبيه إلى منطقة الحدود مع أوكرانيا حاملين الزهور ليضعونها على صدور الجنود العائدين.

وبعيدا عن الأزمة الروسية – الأرمينية، ربما نلمح سريعا علي طبيعة الصراع الأرميني – الآذربيجاني حول ناجورنو كاراباخ، فالأزمة تعود إلى مخططات الزعيم السوفيتي الراحل جوزيف ستالين، الملقب بـ”زعيم الترنسفير للأقليات الروسية” عبر تشتيتها، فشتّت الشركس من منطقة سوتشي، ورحل التتار من شبه جزيرة القرم، ووضع إقليم ناجورنو كاراباخ تحت القيادة الآذربيجانية عام 1923، لكن ضمن الاتحاد السوفيتي، وذلك على الرغم من أغلبيته الأرمنية. وتأتي سنوات التسيعينات بعد انحلال الاتحاد السوفيتي واستقلال الجمهوريات التي كانت خاضعة لحكم الكرملين، لتسيطر البندقية الأرمينية على إقليم كاراباخ. ويأتي عام لتتعادل آذربيجان عسكريا مع أرمينيا نتجية تحديث الجيش وشراء الأسلحة من إسرائيل وتركيا، ليقلب الجيش الأذربيجاني موازين القوة ويشن حربا بسلاح اللمسيّرات ، وطوق الجيش الآذربيجاني ناجورنو كاراباخ. وتدخل روسيا المتأزمة عسكريا وسياسيا متأخرة في الصراع . فأرسلت ما يقارب الـ2000 جندي روسي لحفظ السلام. ولكن بعد فوات الأوان، حيث كان الإقليم قطد سقط بالفعل في أيدي الجيش الآذربيجاني.

الموقف الروسي لم يحسم موقفه في الأزمة، فلدي موسكو مبررات لعدم التدخل سريعا لمصلحة الأرمن رغم مطالبة يريفان المساعدة العاجلة من موسكو ضمن معاهدة “منظّمة معاهدة الأمن الجماعي”، ولكن عدم الاستجابة الروسية فتعود إلى رؤية موسكو بأن البند الرابع من المعاهدة ينص على التدخل فقط عند تعرض السيادة الأرمنية للاعتداء، لكن الأمر هذا لم يتوفر لأن موسكو تعتبر إقليم كاراباخ هو قانونا تحت السيادة الآذربيجانية، هذا بالإضافة إلى أن الحرب الأوكرانية غيرت كل معادلات القوة حول روسيا، خاصة في منطقة القوقاز الجنوبي، ومن هنا اعتبرت أرمينيا موسكو لم تعد الضامن الأمني والإستراتيجي لها، مما دفع رئيس الوزراء الأرميني باشينيان يرتمي في أحضان الغرب والولايات المتحدة ولكن بعد فوات الآوان.

معطيات الصراع النهائية لم تتضح بعد رغم أن آذربيجان فرضت الأمر الواقع بقوة السلاح، وتنتظر أرمينيا التفاوض السياسي في وقت لم تستطع فيه مواجهة القوة العسكرية الآذربيجانية، علما بأن يريفان تدرك أن السياسة والأمم المتحدة وكل ما يأتي منها لا ينتج عنه واقع سياسي جديد، فتاريخ الأمم المتحدة يقول أنها لم تحرك ساكنا أمام التحولات الجيو – سياسية، أم محاولات فرنسا التدخل وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه فهذا أمر صعب، حتى وإن كانت باريس راغبة في تعزيز دورها وحضورها في منطقة جنوب القوقاز. فباريس تعهدت لأرمينيا بتوفير قدرات تمنحها القوة على مواجهة التحديات، حتى أو وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا “عشمت” الأرمن خلال زيارتها العاصمة الأرمينية يريفان برد قوي على أي محاولات لانتهاك سلامة أراضي أرمينيا، وها هي أراضي أرمينيا يتم انتهاكها لم تحرك باريس ساكنا.وكانت باريس قد انتقدت مرارا التحركات الأذرية، بعد إحكام سيطرة باكو على كاراباخ أخيرا، وأعربت عن قلق بشأن وضع أرمن الإقليم، وتعهدت بمساعدة أرمينيا على التعامل مع الوضع الجديد. وقالت كولونا، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيرها الأرميني أرارات ميرزويان، قبل أيام، في يريفان: “أود أن يوجه الاتحاد الأوروبي وكافة الدول الأعضاء فيه ابتداء من هذه اللحظة، مثل ما نقوم به نحن، إشارة واضحة لجميع من قد يحاولون انتهاك سلامة أراضي أرمينيا”. وأضافت بلهجة تحذير غير مسبوقة: “أي أعمال من هذا القبيل سوف يعقبها رد قوي”. وأشارت إلى أنها تعول على “دعم الشركاء في هذه المسألة، وخصوصا الولايات المتحدة”.

إجمالا.. فالعملية العسكرية الخاطفة للجيش الآذربيجاني في إقليم ناجورنو كاراباخ كرست واقعا جيو – سياسيا جديدا في منطقة جنوب القوقاز، فقد تم تثبيت السيطرة الأذرية على كاراباخ الأمر الذي سيكون له تأثيرات كبرى في اللاعبين الأساسيين في جنوب القوقاز وفي مناطق محيطة بها.

زر الذهاب إلى الأعلى