محمد أمين المصري يكتب : من معاني التضحية والفداء

يستقر حب الحج في أعماق قلوب المسلمين ويتمنون أداء هذه الفريضة العظيمة التي يتجمع فيها المسلمون من مختلف أنحاء المعمورة في بيت الله الحرام. فاليوم الأربعاء 26 يونيو من عام 2023 الموافق التاسع من ذي الحجة يقف حجاج البيت المعمور على جبل عرفات في يوم يتمناه كل المسلمين لينالوا شرف الوقوف على جبل عرفات في هذا اليوم المبارك، فمن من مسلمي الأرض لا يريد أن يكون في أرض عرفات اليوم ليحظي بمكانة عظيمة عند المولى عز وجل ، فهي فرصة لطهارة النفس والتوبة والتقرب إلى الله تعالى.
كثيرون تمنوا الذهاب على الحج هذا العام ولكن ظروفهم منعتهم منم أداء الفريضة العظيمة، وتتضمن حكايات الحج العديد من القصص والتجارب الرائعة التي تبرز الإيمان والتضحية والأخلاق الحميدة للبشر. ومن بين هذه الحكايات، قصة رجل نوى الحج واستعد له جيدا ماليا ونفسيا وروحانيا، ولكنه في اللحظات الأخيرة اختار أن يتبرع أموال الحج لمساعدة مريض في أمل أن يعوضه الله لاحقا.
كل من عرف هذا الرجل – يعمل طبيبا – كما حكى لي صديقي عماد حجاب مدير تحرير “الأهرام”، يعلم أنه يتميز بعمل الخير والكرم، وكانت لديه رغبة كبيرة في أداء فريضة الحج، وفي الوقت نفسه، علم أن مريضا بالمستشفي الذي يعمل به يعاني مرضا خطيرا ولا يستطيع استكمال العلاج وإجراء العملية الجراحية لضيق ذات اليد في الوقت الذي تطلب فيه المستشفي أموالا طائلة تكلفة للعلاج والإقامة، ولم يكن المريض أو أيا من أسرته قادرا على توفير التكاليف المطلوبة للعلاج وكان في حاجة ماسة للمساعدة لإجراء الجراحة الدقيقة.
فكر الطبيب مليا في حاجة المريض للأموال وذهب الى إدارة المستشفي الذي يعمل به وحاول إقناع بالإبقاء على المرض وعلاجه على نفقة المستشفي ولكن طلبه قوبل بالرفض التام، فليس من نظام المستشفي تقديم العلاج مجانا، وهنا أدرك الطبيب أهمية مساعدة المريض، فقرر تأجيل رحلته إلى الحج ليتبرع بأمواله لتغطية تكاليف علاج المريض الذي يعرفه ولا يمت له بصلة. لم يتردد الرجل الطبيب في تنفيذ قراره ، فقد كان يؤمن بقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وَلَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” (آل عمران: 92).
أدرك الطبيب أن الله يعوض عباده على كل خير ينفقونه في سبيله، وأن الأجر والثواب الحقيقي يأتي من الله وليس من المكان الذي يؤدي فيه الشخص فريضة الحج. وبالتالي، تبرع الرجل بكل ما كان يمتلكه من أموال الحج لمساعدة المريض الفقير وهو متيقن أن الله سيعوضه خيرا على صنيعه.
ولم يكن الطبيب يدري أن أحد ملاك المستشفي قرر الذهاب للحج وأن يكون معه رفيقا من المستشفي فوقع عليه اختيار هذا الطبيب دونه غيره من الأطباء، لتتحقق له رغبته الصادقة التي تمناها من المولى عز وجل وقد حققها له ومن أوسع الأبواب، فسرد لصاحب المستشفي حكايته مع المريض الفقير وكيف تبرع له بمصاريف الحج ، وهنا اقتنع مالك المستشفي بضرورة توفير قدر من الأسرة لعلاج الفقراء مجانا.
لقد عوض الله الطبيب على تضحيته وسخائه وزهده، فالله أكرم الأكرمين لا يضيع أجر من أحسن عملًا. قد يبدو أن الرجل فقد فرصة الحج في البداية، ولكنه ربح في النهاية أجرا أكبر وثوابًا أعظم. فالتضحية والإحسان للآخرين تجلب البركة والرحمة من الله.
إن حكاية الطبيب تعد درسا قيما لنا جميعا، فهي تذكرنا بأن العطاء والإحسان للآخرين هو أحد الطرق لتحقيق السعادة ونيل رضا الله. قد يكون تأجيل الحج للقاء احتياجات الآخرين قرارا صعبا، ولكنه قرار يأتي بثماره الجميلة والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
ومن الواقع إلى التاريخ، حيث يحكى أن العالم الجليل عبد الله بن المبارك ومعروف عنه أنه أحد الزهاد الصالحين من السلف الصالح، كان يؤدي مناسك الحج كل عامين ويعد العدة لذلك مخلصا لله وطالبا رضاه. وملخص قصته عبد الله بن المبارك كما جاء في كتاب الإمام ابن كثير “البداية والنهاية”، وكتاب “تاريخ بغداد” للإمام الخطيب البغدادي، أن عبد الله بن المبارك كان ينفق على أصحابه ويجهزهم للحج، واعتاد أن يجمع من أصحابه الذين سيرافقون في رحلة الحج من بلدته “مَرو” نفقات حجهم فيضعها في صندوق ويغلقه ويتركه في منزله لحين عودته، ثم يذهب للحج مع الجميع وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام ويشتري لهم من مكة ما يريدونه من الهدايا والتحف، وبمجرد عودتهم “مرو” يدعوهم على وليمة فخمة ويفتح أمامهم صندوق الودائع ويرد لكل حاج ما سبق ودفعه كنفقات لحجه.
وفوجي عبد الله بن المبارك وهو في طريقه للحج في أحد الأعوام بعد أن يودع أصحابه ، بسيدة بسيطة تنحني في الظلام على كومة من القمامة وتنبش فيها عن بقايا طعام فعثرت على دجاجة ميتة فالتقطتها على أمل أن تذب بها لمنزلها لتطهوها وتطعم أطفالها الجوعى. راقب بن المبارك الموقف برمته فذهب للمرأة وسألها: ماذا تفعلين؟ وذكرها بالآية: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ}. فرفضت الإجابة في البداية ولكن بعد إلحاح منه قالت له : إن الله قد أحل لنا الميتة، وأنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات ولا يوجد من يكفلنا، وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لأولادي الجوعى فعثرت على هذه الدجاجة الميتة. حزن عبد الله بن المبارك لحال السيدة الفقيرة وبناتها وبكي بحرقة وأعطاها كل المال الذي كان ينوي به الحج وعاد إلى بيته ولازمه طوال فترة الحج.
القصة لم تنته بعد، فأصحابه ذهبوا إلى مكة وأدوا فريضة الحج ثم عادوا، وذهبوا لزيارته في بيته ليشكروه على إعانته لهم طوال فترة الحج، فقالوا له: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم، ولا رأينا خيرا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام.
تعجب ابن المبارك من حكايات أصحاب الحجاج، فكيف يرونه في الأراضي المقدسة وهو لم يغادر بلدته “مرو”، ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع سرد قصته مع المرأة الفقيرة وبناتها وكيف تبرع لها بأموال الحج ليعشوا منها، ونام ليلته وهو يتعجب مما حدث، وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبد الله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرا .. يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى .. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله – سبحانه وتعالى – خلق ملكا على صورتك.. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج .. وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
في الختام، يجب أن نتذكر أن الحج هو فريضة عظيمة ودرسها الأعظم هو الفداء والتضحية، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تدعونا إلى العطاء والتضحية، وإخلاص النية لله تحقق المعجزات. فمعاني التضحية والفداء متعددة، وإذا كان أداء مناسب الحج إحداها، فمساعدة الآخرين المحتاجين من أعمال التضحية والفداء أيضا.