محمد أمين المصري يكتب : العالم في عهدة النمر الصيني الجديد
ربما تحدث كثيرون عن أهمية الاتفاق السعودي – الإيراني الذي يقضي بتطبيع العلاقات بين البلدين بعد قطيعة استمرت من عام 2001 وحتى وقتنا الراهن، استطاعت إيران استغلال هذه الفترة في تشكيل تحالفات خطيرة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين.. ولعل من دواعي الاهتمام بهذا الاتفاق الذي يتطلب دراسة مفصلة لاحقا لرصد مدى أهميته وأبعاده الجيوسياسية على منطقة الشرق الأوسط، أن الصين كانت الوسيط الذي استضاف المحادثات بين الرياض وطهران ليتم الإعلان عن الاتفاق سالف الذكر في سابقة تعد الأولى في عالمنا المعاصر. فكل الوساطات لا تقوم بها الولايات المتحدة أو روسيا، وكون الأولى دولة تعتبر إيران عدوا، والثانية مشغولة في حربها في أوكرانيا، فقد استغلت الصين هذا الفراغ العالمي لتقوم بإنجاز تاريخي أسفر عن اتفاق الرياض وطهران على تطبيع العلاقات خلال شهرين والعمل بالاتفاقات الأمنية السابقة، والأكثر أهمية في هذا الاتفاق هو النظر بتفاؤل في إنهاء الحرب اليمنية وتراجع الحوثيين عن أطماعهم في حكم شمال اليمن، ثم تفرع السعودية لعملية البناء والتنمية التي بدأتها بتدشين رؤية 2030.
إذن..الصين كانت مفاجأة الاتفاق السعودي – الإيراني، في بادرة تنم عن انطلاق المارد الصيني من مأمنه ليغزو العالم ويسد فراغا دبلوماسيا وسياسيا. ولكن مع الانطلاقة الصينية، فثمة عناصر ساعدت بكين على تبني دور الوساطة وهو جديد علي الدبلوماسية الصينية، فالقيادة الصينية ترى أن التقدم الاقتصادي يلزمه قوة عسكرية ودبلوماسية لضمان المصالح الصينية في العالم. ولذا كانت القيادة الصينية سباقة في فتح مجالات دبلوماسية جديدة لم تكن تقوم بها سوى الولايات المتحدة، وهذا في إطار الحرب التى أعلنتها الصين على أمريكا ودشنها الرئيس الصيني شي جين بينج وأركانه قيادته الجديدة، رئيس الوزراء لي تشيانج، ووزير الخارجية تشين جانج.
“الأمن أساس التنمية والاستقرار شرط أساسي للازدهار”..لم يكتف الرئيس الصيني بهذه الكلمات القليلة ليؤكد حق بلاده في العيش بسلام وسط مخاطر عديدة تحيق بالصين، ولكنه زاد عليها بضعة جمل غاية في الأهمية، ربما تنبع تلك الأهمية من كونها تصدر عن الرئيس الصيني نفسه لأول مرة وهو يوجهها نحو الولايات المتحدة، ثم يصفها “بلدا شريرا” يريد احتواء الصين وقمعها.
بينج شدد على أهمية تعزيز الأمن القومي لبلاده وتحويل الجيش إلى “جدار عظيم من الفولاذ؟ يحمي السيادة الوطنية ومصالح التنمية.. يتضح من كلمات بينج أن اللهجة الصينية تبدلت من التسامح والهدوء والتغاضي عن أخطاء الآخرين إلى الهجوم والرد الرد وتوجيه تحذيرات. ولم لا؟..فقد تحملت الصين ما يمكن تسميته “رذالات” أمريكية عديدة خاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي حاول مرارا إهانة الصين ومقاطعة منتجاتها الالكترونية ووقف استيراد أجهزة هواوي التي تعتبرها بكين فخر الصناعة الصينية، ثم حرض ترامب الأوروبيين على عدم استخدام هذا المنتج الصيني.
من احتل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض خلفا لترامب رفض هو الآخر التراجع عن مهاجمة الصين، وواصل جو بايدن الحرب الاقتصادية وزاد عليها الحديث عن احتواء عسكري وسياسي وإقليمي بدعمه تايوان ضد البلد الأم”الصين”. وأعلن بايدن وقوفه بجانب مطالب تايوان بالاستقلال ودعمها دبلوماسيا وإقليميا وعسكريا بقراره تصدير السلاح الأمريكي، بالمخالفة إلى اتفاقيات عرفية تمنع مد تايوان بأي سلاح.
الصين وعلى لسان رئيسها شي جين بينج لم تقف ساكنة أمام التسلط الأمريكي، وبعد أن حاولت احتواء أزمة المنطاد، انتفضت واستخدم الرئيس الصيني ألفاظا لم تعتادها الأذن الأمريكية من قبل، فحذر من “تنمر القوى الأجنبية” ببلاده، وما سببه هذا التنمر من مصاعب للصين، خاصة في المجال الاقتصادي..ثم استخدم بينج تعبير فظا ليواجه به الصلف والغرور الأمريكيين، فعندما يقول الرئيس الصيني “فليعلم الجميع كيف قاد الحزب الشيوعي البلاد إلى محو الإذلال الوطني”، فهو يضع أمريكا على المحك ويعتبرها عدوا، ليس افتراضيا وإنما واقعي. ثم يتوعد بينج أي قوى “غريبة” من التدخل في تايوان “التمسك بمبدأ الصين الواحدة لن نحيد عنه”. وإمعانا في لهجة التشدد التي تستخدمها الصين ربما للمرة الأولى، أعلن بينج أن بكين ستتصدى بحزم لأي تدخل أجنبي في قضية تايوان وستقاوم الأنشطة الانفصالية.
أهمية كلام بينج كونها أمام نواب البرلمان الصيني بعد أيام قليلة من تنصيبه رئيسا لولاية ثالثة، ومن المؤكد أن الرئيس الصيني سيخصص تلك الولاية لمواجهة الخصوم في العالم، بعدما نجحت بلاده بدرجة كبيرة في القضاء علي فيروس كورونا الذي تسبب في تراجع معدلات النمو.
وما يؤكد تطور اللهجة الصينية من التهدئة إلى الهجوم والتحذير، ما صرح به لي تشيانج رئيس الوزراء الصيني الجديد، ففي أول تصريح له أمام مجلس النواب الصيني يستخدم نفس لهجة التحدي المتشددة وينتقد نوايا أمريكا منع صعود الصين عالميا من خلال عزلها.
يبدو أن الصين التى صبرت كثيرا على التحرشات الأمريكية قررت تغيير دفة الحديث والرد بقوة على استفزازات واشنطن، وقاد حملة تغيير اللهجة والنهج وزير خارجيتها الجديد تشين جانج الذي تكرهه واشنطن، فهو كان سفيرا لبلاده لدى العاصمة الأمريكية وتعامل معه الأمريكيون بغلظة وقيدوا تحركاته الدبلوماسية حتى كاد لا يغادر مقر السفارة، حتى تبني فكرة سلبية للتعامل مع الولايات المتحدة التي لم ترحب به عند اختياره ممثلا للخارجية للصينية.
“صقر الصين” هو لقب تشين جانج، الذي باشر عمله بتوجيه تحذير شديد اللهجة للأمريكان “على الولايات المتحدة أن تضغط على المكابح لأنه لو استمرت في هذا المسار فلن يحميها أي سياج تحتمي به”. جانج كان واضحا في حديثه ولم يذكر سوى قوتين في العالم، الصين وأمريكا، وإذا أرادت الأخيرة في العيش بسلام فعليها التعاون مع بكين وأن تتخلى عن مسارها الخاطئ بالمواجهة، فالصراع لن يفيد الولايات المتحدة.
“عودة العلاقات بين القوتين العالميتين للمسار الصحيح ليس خيارا وإنما ضرورة”..هي رسالة جانج لواشنطن “الاحتواء والقمع لن يجعل أمريكا عظيمة، والولايات المتحدة لن توقف تجديد الصين”.
ولعل من رسائل القوة الصينية أيضا القيام بدور الوساطة بين السعودية وإيران، ووساطة لاحقة بين روسيا وأوكرانيا.. فالنمر الصيني الجديد يعيد تشكيل العالم.