مقالات الرأى

خالد إسماعيل يكتب :صلاح عيسى .. رائد ومعلم ولوكره الحاقدون

عرفت الكاتب الصحافى والمؤرخ الراحل “صلاح عيسى” فى ثمانينيات القرن الماضى ،من خلال كتاب له اسمه “حكايات من مصر” ،منشور فى بيروت ،كان الكتاب بالنسبة لمراهق صعيدى “العبدلله آنذاك” فتحا مبينا ودهشة عظيمة ، لم أعرف مصدرها لكننى شعرت بها ، وعرفت فى الفترة ذاتها ،اسم الكاتب الراحل من جريدة “الأهالى “،كان يشغل منصب “مديرالتحرير”، وهو الذى يجهز”الطبخة الأسبوعية “لها ،وكنت أتابع “اليوميات ” التى كان يكتبها فى الصفحة الأخيرة ، وأتابع “الأهبارية” وهى زاوية ،تخصصت فى التعليق على ما تنشره الصحف الحكومية الثلاث” الأهرام” و” الأخبار” و” الجمهورية”، وكذلك أتابع زاوية “أولاد الذوات وأولاد الإيه”،وتوالت الأحداث ، وخرج “صلاح عيسى ” من “الأهالى “، ولكنه ظل فى ذاكرتى ، وظلت حلاوة أسلوبه فى عقلى ، فهو عندى واحد من الرواد والمعلمين ،وكنت قرأت “الأيام ” للدكتورطه حسين ، و”عبدالناصرالمفترى عليه” للكاتب “حسنين كروم”، و”دمعة فابتسامة ” للرائد الكبير”يحيى حقى “،ولكن “صلاح عيسى ” تميز بالسخرية ، والمعلومة التاريخية الدقيقة ، على سبيل المثال ،كتابه “حكايات من دفتر الوطن ” يحتوى حكايات شكلت مفاصل مهمة فى تاريخ المصريين فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين ،مثل حكاية “البابا كيرلس الخامس” بابا الكرازة المرقسية الذى تصدى لمحاولات القضاء على اسنتقلال الكنيسة القبطية ،وحكاية الثورة العرابية التى كانت “مواجهة ” بين “الوطنية المصرية ” والاستعمار العالمى بقيادة بريطانيا ،زعيمة العالم آنذاك ،وحكاية منع تجارة الرقيق والمعركة التى خاضتها منظمات حقوق الإنسان فى أوربا ، ضد تجار الرقيق الذين كانوا يتاجرون فى البشر،وحكايات أخرى اختارها “صلاح عيسى ” بدقة المؤرخ ووعى المناضل التقدمى ، وكتابه “هوامش المقريزى ” الذى نشر على حلقات فى جريدة ” الجمهورية “، كتاب دال على ريادة “صلاح عيسى ” ودوره فى تعليم الأجيال الجديدة ، فهو لكى يختار هذه الهوامش من بطون كتب التاريخ ،أنفق سنوات من عمره ،وقدم لنا ـ رحمه الله ـ هدية كبرى ، تمثلت فى كتاب “رجال ريا وسكينة ” وهو تحقيق تاريخى لقضية عصابة “ريا وسكينة ” التى روعت المصريين فى الأعوام “1919 و1920 ،1921” ،وحولها فنانو الدراما إلى أفلام سينمائية ،لكن هذه الأفلام اعتمدت على ما تنشرته الصحف ،ولم يفكرواحد من صناع تلك الأفلام فى البحث عن ملف “القضية”، صلاح عيسى وحده تحمل هذا العبء ، وحصل على نسخة من ملف القضية ، وقدم للقارىء الحقيقة كاملة ، بعيدا عن تصورات المخرجين وخيالات الفنانين واختراعات كتاب السيناريو،وكتاب “رجال ريا وسكينة ” هو “سيرة الفقراء” فى ظل الهزيمة المعنوية للشعب عقب وقوع مصر فى قبضة الاحتلال البريطانى ،فالمعروف أن الثورة العرابية “1882” انتهت بالفشل ونفى زعمائها ،ودخلت القوات البريطانية واحتلت الإسكندرية والقاهرة ، ورجع ” الخديو توفيق ” ـ من الإسكندرية ـ فى موكب تحرسه قوات بريطانيا العظمى ، وكان رد فعل الشعب المصرى ، متعدد الصور، هناك من قاوم بالسلاح ، فتشكلت فرق اغتيال استهدفت “الخونة ” الذين دعموا الاحتلال ،وظهرت “سيرة بنى هلال ” وتغنى بها الشعراء، وهى محاولة شعبية لاستدعاء بطولات عربية وقعت فى الماضى ،وظهرت “الجريمة المنظمة ” وكانت عصابة “ريا وسكينة ” النموذج الصارخ للتدنى الأخلاقى والانحطاط الذى بلغته شرائح كبيرة من المجتمع المصرى فى ظل الفقر والقمع ،فهى عصابة تتاجر فى الأعراض ، وتقتل السيدات “عاملات الجنس” ،ولا تعرف عن الدين والأخلاق والقيم شيئا ، وهى الترجمة الحرفية لعبارة “الجوع كافر”،وقد جاع المصريون فى الصعيد والدلتا ،وكفروا بكل المعانى فى تلك الحقبة السوداء،ولولا “صلاح عيسى ” ما عرفنا المعاناة التى عاشها الشعب المصرى تحت الاحتلال البريطانى ،ولولاه رحمه الله ماعرفنا ،حكاية “منصور الخط” ،القاتل الصعيدى الأسيوطى الذى ظهر فى أربعينيات القرن الماضى ،ولا حكاية “مقتل مأمور البدارى ” ،ورغم ضخامة منجزه الإبداعى ، كان متواضعا ،عارفا فضل الكاتب الكبير”أحمدبهاء الدين” صاحب كتاب “أيام لها تاريخ”،وقال عنه إنه كتاب معلم ،فتح له الطريق لقراءة التاريخ المصرى بعيون الباحث والمثقف المنحاز للشعب ..رحم الله “صلاح عيسى ” الباقى بمنجزه وإبداعه رغم أنوف الحاقدين.

زر الذهاب إلى الأعلى