احمد محمد صلاح يكتب : (علي باب مصر) تكوين العقل المصري
عندما قررت ان اكتب علي باب مصر ، كنت اعلم اني اخوض في رمال التاريخ، الذي كل حبه منه حدثا قائما بذاته، ولكن مجموعه يكون تلا او جبلا ضخما، من تراكم المعارف والأجيال والتواريخ، لتشكل في النهاية العقل.
واذا كنا نحسب الأمر علي البشر العادي، فمجموع ساعات وايام حياته، اذا قسمت علي خبراته ومعارفه، تشكل هذا الذهب الفردي، نفس الأمر يسير علي الأمم، فتراكمات خبراتها التاريخية تحدد الي حد كبير الي اين تذهب تلك الأمة ، بغض النظر عن التحولات السياسية التي تحيط بها، او التغيرات التي تحدث بها من الداخل .
مر العقل المصري بالكثير من الخبرات والتغيرات علي مدي تاريخه مما ايدي في النهاية الي وجود شخصية مصرية متفردة بذاتها عن بقية الشعوب والأمم، كان اهم اسباب تلك الشخصية المصرية هي العلاقة الأبوية مع نهر النيل، تلك العلاقة التي وصلت الي حد ان الحاكم كان يستمر قوته من النهر.
والدليل ان كل الحكام الذين خلدهم التاريخ هم من اهتموا بنهر النيل سواء في حفر الرياحات او تطهير الترع والمصارف او بناء الجسور والكباري، أو السدود والقناطر، فخلد التاريخ اسم محمد علي وجمال عبد الناصر علي وجه التحديد.
ثم بدات الشخصية المصرية تتحدد منذ فترة الأسرات المصرية القديمة، حيث كان المصري القديم ، مهندسا وعاملا ومزارعا بارعا، ولكنه ترك امر الحكم والدين في يد طبقة معينه اخري، ولكنه ابدع في امور عمله سالف الذكر، فكانت تكوين الشخصية المصرية في نواته قائما علي الطبقة الشغيلة ، او ملح الأرض كما يحلو لي ان اقول، مع ترابط بين جذور ونواة اخر، جعلت الكل في واحد، مما جعل المصري القديم يقدس رجل الدين، ويوقر الحاكم، ويشعر بنزعة وطنية بسبب ما يزرعه ويصنعه علي ارضه .
لذلك مع كل المحاولات التي كانت لاحتلال مصر ومحاولات تفريغ الهوية والشخصية المصرية بدءا من الهكسوس وحتي والانجليز، الا ان الجينات المصرية كان تقف حائلا دون ذلك كله .
كان تاثير الفكر المصري ممتد الي دول وشعوب وحضارات، ابرزها الحضارة اليونانية، والتي تاثرت كثيرا بالفكر المصري سواء في العمارة او الفن او الفلسفة، وكنت الاسكندرية هي منارة العلم في العالم، ففلاسفة اليونان كلهم تقريبا ، تتلمذوا داخل اروقة المكتبة، ثم عادوا لبلادهم ليكتبوا فلسفتهم، غير متناسين دور الحضارة المصرية في تعليمهم
وليس اليونان فقط، بل ايضا الحضارة الاسلامية، فيكفي ان نذكر ان المئذنة هي تجسيد للمسلة الفرعونية، كذلك فان التصميم الذي عليه المساجد هو في جوهره شكل المعبد الفرعوني باساطينه واسقفه العالية، وليس غريبا ان تكون الكنائس ايضا جزءا من هذا التكوين، وهذا التاثر، بالعقل بالعقل المصري .
الأخطر من ذلك هو اللغة المصرية والتي تغيرت مرتين الأولي مع دخول اليونان والثانية مع دخول العرب، وغيرت مصر لسانها مرتين، ولكن اللغة القبطية، او المصرية القديمة، لم تمحي تماما من الوجود، بل تأثر بها اليونان ثم المسيحيون الذين اقاموا صلاوتهم بهذه اللغة، التي هي امتداد للغة الديموطيقية المصرية القديمة.
اخذ المصريون من كل احتلال شيئا يسيرا ، ونظموا انفسهم علي ذلك اليسير، ليضيفوا له من ابداعهم الكثير، فمثلا، كانت الومضة الثقافية التي شهدها المصريون حين دخل بونابرت وجنوده محتلا مصر، امرا بالنسبة لهم مرهقا ذهنيا بعد سنوات من التعتيم العلمي، والجهل الممنهج، فكان فور خروجهم ثم تولي محمد علي، ان بدات البعثات الأجنبية الي اوروبا لتنقل الي مصر خلاصة ما فاتهم، من التطور.
ما يميز العقل المصري قدرته علي استيعاب كل المدخول اليه، ثم لفظ الغث والرديء، ثم الكمون لفترة وكأنه مفعول به وليس فاعل، ثم التحرك فجاءة فاعلا ليس مفعولا به، ان دراسة العقل المصري بالطرق العلمية تحتاج الي مجلدات، ومقال واحد لن يكفي
وللحديث بقية