مختار محمود يكتب: شيزوفرينيا!
في كل مرة تجمعنا صلاة الفجر أود أن أسأله، قبل أن يمنعَني الحرَجُ في الرمق الأخير. أضعُ حديثَ الرسول الكريم: “من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه” دستورًا لي في حياتي. لا أتطفل على أحد، ولا أحبُّ المتطفلين. أقنعتُ نفسي، أو أقنعتني هي بأن الأمر ليس شخصيًا على الإطلاق، بل إنَّ الصمت عنه والتماهي معه قد يصل إلى حد الجريمة!
في هذا الصباح..اقتربتُ منه، صافحتُه، عرَّفتُه بنفسي، فقال: إنه يعرفني، ربما كان جادًا أو مُجاملاً. إنه أحد الأسماء البارزة في المشهد الثقافي والفكري، له إنتاج طاغِ وثري ومتنوع، لسانه وقلمه يتنازعان فصاحة وتبيانًا، اسمُه حاضرٌ في دوائر الترشيحات وعلى منصَّات التتويج المحلية والعربية، لا يكاد يغيب عن البرامج التليفزيونية ذات الأجر السَّخيِّ. حساباته في الفضاء الإلكتروني تخوض مع الخائضين في الإسلام. كثيرٌ من منشوراته ومداخلاته المتلفزة يقتاتُ على كتابات المستشرقين الكارهين للدين الخاتم وأشباههم. يبدو كأنه من نَسل عبد الله بن أُبيِّ بن سلول رأس المنافقين في المدينة المنورة إبان البعثة النبوية.
بعد فاصل من المجاملات البروتوكولية؛ لا سيما أن الشعراء والأدباء يغرُّهم الثناء..سألتُه بهدوء، يفوق هدوء عماد الدين أديب، بعدما غادرنا المسجد، وبعيدًا عن الكلمات والتعبيرات الخشنة: لِمَ كل هذا التناقض؟ فانقبض وجهه الذي كان مُنبسطًا تحت تأثير الثناء منذ ثوانِ مُعقبًا: أيُّ تناقض؟ أجبتُه: “أراك ملتزمًا دينيًا، مواظبًا على الصلاة في المسجد، تاليًا لكتاب الله، رغم أن كتاباتك وتعليقاتك ومداخلاتك تشي دومًا بشخص متمرد على الدين، مبتور العلاقة به…”، فأشار بيده مُقاطعًا، فتوقفتُ عن الكلام المُباح، بعدما حققتُ المراد مؤقتًا. سألني إن كان بإمكاني أن أشاركه رياضة المشي في هذا الجو المُنعش، فأبديتُ موافقة؛ رغبة مني في استكمال الحديث وإدراك الإجابة وفك اللغز، وإحساسًا مني بأنَّ الطلقة الأولى لم تضل هدفها!
بعد مناوراتٍ كلاميةٍ مكشوفةٍ من جانبه، أو هكذا ظننتُها..عاد الرجل الذي يقترب حثيثًا من عامه السبعين – وإن ظهر ممشوقًا ألِقًا- إلى صُلب الموضوع، ولكنه بدا ودودًا، أو مُتصنعًا الود هذه المرة، ثم أردف: “الحياة في مصر تتطلب كثيرًا من المرونة والخِفة والمراوغة، لا ينبغي أن تكون واضحًا أكثر من اللازم، لا تُطلع أحدًا على ما يكنُّه صدرك ويخفيه فؤادك، ذوو الميول الملتزمة مكروهون في الوسط الأدبي محليًا وعربيًا، لا يحتفي أحدٌ بأعمالهم، ولا يفكر في ترشيحهم لجائزة، ومحظورون من الظهور الإعلامي..هذه حقيقة لا جدال فيها، وإن كانت هناك استثناءات فهي محدودة جدًا”، متابعًا: “قرأتُ له من قبل مقالاً عن كواليس جوائز المجلس الأعلى للثقافة، وكان كاشفًا جدًا لما يحدث، ومؤكدًا لما ذكرتُه لك آنفًا”!
لم تشرق الشمس بعد، ويبدو أنها لن تشرق قريبًا؛ فالضبابُ والسحابُ يملآن الأرض والسماء!! تهدَّجت أنفاسُ الأديب السبعيني من المشي، طلب أن نجلس قليلاً على رصيف مرتفع نسبيًا عن الأرض؛ بعدما ترجَّلنا نحو خمس وأربعين دقيقة متصلة، ثم استطرد: “كان لا بد أن أرتدي قناعًا مغايرًا لشخصيتي؛ حتى أبقى جزءًا من المُعادلة، وأظل شريكًا في المشهد، ولا أكون منبوذًا أو مُهمَّشًا، ولا تكون أعمالي مُهملة، أنا مثل أي كاتب يريد الاحتفاء بكتاباته والتقدير عليها، ويشغله أن يحصل على جائزة من هنا ومن هناك، أعرف كتابًا وأدباءً أفذاذًا طواهم النسيان؛ بسبب مواقفهم الجامدة والصلبة…”!
قاطعتُه أنا هذه المرة قابضًا على أعصابي: “وهل يكون ذلك على حساب دينك، هل يصح أن تكون مِعول هدم…”، فقاطعني –قبل أن أتمَّ الجملة الأخيرة- مُنفعلاً: “الإسلامُ أكبرُ من أن تهدمه أية كتابات، الإسلام دين عظيم وشامخ وذو بنيان راسخ، ولو لم يكن ذلك لتهدَّم في مهده أو منذ قرون طويلة”! تصنعتُ البرود مُجددًا؛ حتى أسبر أغوارَه إلى النهاية قائلاً: “ولكنك تجتهد اجتهادًا غير طبيعي في حشد الأفكار المسيئة للإسلام بصورة مُنتظمة، بل تكاد تكون مُمنهجة، حتى إن أحدهم عندما أعلن إلحاده مؤخرًا، شدد على أن كتاباتك هي التي قادته إلى الإلحاد، وكان ممتنًا كثيرًا لكما: أنت وكتاباتك المُلهمة”!! فامتعض وجهه واحمرَّ قبل أن يُعقِّب: “لم يحدث”، فقلت له: “بل حدث”، ثم أطلعتُه عبر هاتفي على الحساب الشخصي للمُلحد المُستجد على فيسبوك، قبل أن أستطرد: “كما إن كتاباتك يحتجُّ به كل خارج عن الدين أو كاره له، ما تفعله وتكتبه ليس هينًا كما تظن أو تعتقد، بل قنابل فكرية ممتدة الأثر والتأثير، ولا أظنُّ أن شيئًا يمكن أن يغفر كل هذا المنكر سوى توبة نصوح صادقة لا تعود بعدها أبدًا إلى ما أنت عليه الآن”!
وبينما تعالت حدة الحديث بيننا، حتى قال لي: “مَن أنت حتى تزايد عليَّ أو تحاكمني”؟، فعقبتُ على قوله: “لا مزايدة ولا محاكمة، بل إن ما ترميني به الآن هو عينُ المزايدة”! وبينما شرعتُ في أن أدير له ظهري منصرفًا ومُكتفيًا، إذا بصوت الشيخ محمد رفعت يتسلل من مذياع متجر صغير، حيث قرآن السابعة صباحًا، وهو يقرأ: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ”، فأشرتُ إلى حيث الصوت قائلاً له: “لعلها رسالة من الله تعالى إليك في وقتها، فلم يتبقَ من عُمرك قدر ولا نصف ما قد سلف، فاظفر بنفسك قبل النزع الأخير”، وافترقنا، كلٌّ في طريق..