مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: التلاوة المصرية في زمن الـ “AI”!!

0:00

في الفم ماءٌ كثير قد يُعجزه عن البوح والتصريح، غير أن الصمت في بعض الحالات يرتقي إلى درجة الخيانة والتدليس. “فلتقل خيرًا أو لتصمت”.. لا تصلح قاعدة عامة لكل شيء. الصمت عن الخطأ دناءة، والتصفيق له مشاركة في الإثم. الحال التي تردت إليها مدرسة التلاوة المصرية في العشرين عامًا الأخيرة -على الأقل- قد تُرضي عدوًا ماكرًا، لكنا لن ترضي حبيبًا مخلصًا. ضَرَبَ الضعفُ مفاصلَ دولة التلاوة المصرية، حتى تم تصنيف القراء المعاصرين إلى فئتين، هما: “سييء وسييء جدًا”، ولم ينجُ من هذا التصنيف سوى عدد قليل جدًا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. الأمر لم يتوقف عند سوء المستوى وضعف الحفظ والعبث بالأحكام جهلاً أو عمدًا؛ استرضاءً للعوام والدهماء والأرزقية على حساب كلام العزيز الحميد، ولكنه تحول إلى “بزنس” كريه، يشمل تحالفات وتربيطات وميلشيات إلكترونية و”شغل سمسرة” و”ضربًا تحت الأحزمة”! تحولت المحافل القرآنية إلى فقرات للتسلية والترفيه والضحك، وكأنها أحد أذرع “السيرك القومي” أو “المسرح الكوميدي”! صار القرآن الكريم غريبًا مُهانًا في البلد التي صدَّرت تلاوته للعالم، من أناس يُفترض فيهم أن يكونوا الأكثر حفظًا وصونًا وتوقيرًا لآياته الكريمات. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه ابن ماجه: “إن من أحسن الناس صوتًا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله”، فإن هذا الحديث لا يكاد ينطبق على أكثر من 90% من مشاهير قراء هذا الزمن المشغولين بأمور زائفة، وأطماع زائلة، جعلتهم نسيًا منسيًا، وهم لا يزالون على قيد الحياة!
وفي ضوء ما قد سلف، في ظل ما يُشبه الإجماع على تدهور مدرسة التلاوة المصرية، وفي ظل عدم حفظ معظم القراء الجدد للقرآن الكريم كاملاً، كما كان يفعل العميان قبل المبصرين من الرعيل الأول، واكتفائهم بمجموعة أرباع متفرقة؛ “لزوم أكل العيش”، حتى إن بعضهم يخطيء ويُلحن ويرتبك والمصحف مفتوح أمامه، والوقائع المريرة لا تخفى على أحد! وفي ظل استعانة معظم القراء الجدد بأجهزة صوت مستوردة لتحسين أصواتهم الضعيفة الباهتة، حتى تاهت الأصوات، فلا تكاد تميز صوت أيٍّ منهم عن الآخر إلا بشق الأنفس، أ أن ترى القاريء رأي العين، وفي ظل لجوء بعض هؤلاء القراء إلى تحفيل تلاواتهم في أستوديوهاتهم الخاصة أو من خلال الاستعانة بـ”فنيين درحة تالتة”؛ للتغطية على ضعفها، وللتعمية على سوء مستواها! وفي ظل الشبهات التي تشوب اعتماد القراء الجدد بالإذاعة والتليفزيون، وما يكتنفها من مخالفات صارخة ومجاملات فاضحة، مثل: الشخص الذي فشل مرتين مبتهلاً، فجعلوه قارئًا، وأدرجوه في التصنيف الأول، حتى صار يتطاول على مَن يسبقه موهبةً وإتقانًا وتاريخًا! وفي ظل الإصرار على عدم الرغبة في إصلاح هذا العبث المتفاقم أو التدخل لتخفيف حدته، وفي ظل اقتحام الذكاء الاصطناعي -المعروف اختصارًا بـ”AI”- لكثير من المجالات المعقدة والصعبة مثل: الطب والإعلام والمحاماة..يبقى السؤال المنطقي الذي لا يحتمل مزاحًا أو تسفيهًا وهو: لماذا لا يتم الاتفاق مع إحدى الشركات العالمية المتخصصة لإدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى عوالم تلاوة القرآن الكريم وتصميم “روبوت” يكون حافظًا للقرآن الكريم كاملاً، وجامعًا لفنون التلاوة وضوابطها وأحكامها، ومستوعبًا لجميع أصوات القراء المتقدمين، وقادرًا على الدمج فيما بينها لإنتاج أصوات أخرى أكثر تميزًا؛ للقراءة في المحافل العامة والمناسبات الخاصة؟
وفي حال تم تصنيع “روبوت قرآني” بتقنية الذكاء الاصطناعي، وهذا لن يكون عسيرًا في ظل الثورة التكنولوجية العنيفة، ولن يكون مكلفًا على الصعيد المادي..فإن هناك فوائد جمة سوف تحدث لواقع التلاوة المصرية حاليًا..من بينها دون ترتيب:
– لن يكون هناك مجال للاستماع إلى الأصوات المنكرة، ولا إلى التلاوات الرديئة، ولا إلى القراءات الخاطئة، وفرضها علينا بالإكراه، على طريقة فريد شوقي في فيلم “بداية ونهاية”، وسوف يختفي أصحابها تدريجيًا عن المشهد!
–سوف يتضاعف الأمل في الاستماع إلى أصوات طيبة لا تؤذي الأذن، ولا تؤلم الفؤاد، ولا تخدش الوجدان.
– سوف تختفي بالتبعية الأدوار البغيضة للجان الإلكترونية المتخصصة في السب والقذف واللعن؛ بزعم الدفاع عن أهل الذكر وأهل القرآن، وهم يعلمون قبل غيرهم أنهم كاذبون، وأنهم يدافعون فقط عن مصالحهم الشخصية وموائدهم العامرة.
-سوف تختفي أدوار الهتيفة والصييتة والمجاذيب والمعاتيه الذين يفسدون أجواء الإنصات لكتاب الله، ويتجاهلون نصًّا صريحًا وهو: “وإذا قُريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون”، وتزول الفوضى ويحل بدلاً منها حالة من الوقار والخشوع والصمت.
-سوف ينتهي إلى الأبد بزنس القرآن الكريم، ويتم توفير الأجور الخرافية، وتوجيهها إلى مقاصد أكثر رشدًا وحكمة.
-سوف ينتهي زمن الألقاب المجانية التي يتم إضفاؤها على القراء المجردين من الحد الأدني للموهبة، مثل: القيصر والكروان والحكمدار ومحرك القلوب وقاريء العتبات الطاهرة وبصير العلوم والفنون والآداب والثقافة .
– سوف يتجمد بزنس الإجازات القرآنية المدفوعة التي تُمنح لمعدومي الحفظ والفهم والإتقان إجازات مزيفة؛ نظير مبالغ كبيرة من المال!
-سوف ينتهي زمن التوريث في مجال التلاوة -الذي اتسع في السنوات الأخيرة- إلى غير رجعة، وينقضي زمن المعاهد الملاكي التي لا همّ لها إلا جمع المال والهدايا والعطايا من الشرق والغرب.
والأهم من كل ذلك هو أن الروبوتات القرآنية المدعومة بتقنية الـ””AI سوف تكون أكثر خشوعًا وتأدبًا مع محكم التنزيل، حتى وإن خلت قراءتها من الروحانيات، ولن تجد بينها “روبوتًا” يتمايل يمينًا يسارًا، أو يتحدث على دكة التلاوة بفحش الكلام ومُنكره وزوره، أو يخرج عن حدود الأدب واللياقة من قريب أو بعيد؛ حتى تنفضي هذه الحقبة غير مأسوف عليها، وسوف تنقضي بإذن الله، ويعود إلى دولة التلاوة المصرية مجدها الزائل تدريجيًا، ويهييء الله لها من أمرها رشدًا، وهذ ليس مستحيلاً حال صدقت النوايا، وصفت النفوس، وعاد لمحكم التنزيل احترامه المفقود بين الكبار والصغار، وتوقف الناس عن التعامل مع كتاب الله بمنطق البزنس والاسترزاق وأكل العيش، ورفع شعار: “مَن ليس معنا فهو ضدنا”..كتاب الله تعالى أعظم من كل هذا التدني وهذا الهوان!!

زر الذهاب إلى الأعلى