حازم البهواشي يكتب: الإمام محمد عبده ابن الغربية!!
من المستقر بين الناس أن الإمام “محمد عبده” (1849م _ 1905م) من مواليد قرية (محلة نصر مركز شبراخيت محافظة البحيرة)، إلا أن الإمام نفسَه ينفي هذا الأمرَ في مذكراته الخاصة، بَيْدَ أن (جوجل) وكثيرًا من الباحثين لا يَعتدُّون بما كتبه الإمام في هذه المذكرات التي حققها وعلّق عليها (طاهر الطناحي) وكانت قد صدرت عن دار الهلال!!
يقول الإمام “محمد عبده” في صفحة 24 من الكتاب: ” تقدم أنه طالت إقامته _ يقصد والده _ في مديرية الغربية، ويقال إن مدتها بلغت نحو خمس عشرة سنة، وفي أثنائها عرف كثيرًا من سكان البلاد المجاورة لشترا (هكذا وردت في الكتاب “شترا” وأظن أنه خطأ مطبعي والقرية المقصودة هي “شِنِّرَا البحرية _ مركز السنطة”؛ إذ ليس هناك في المنطقة قرية تسمى “شترا”)، وعَرف فيمن عرف بيتَ والدتي وهو بيت كبير في بلدة تسمى “حصة شبشير” يُعرف ببيت عثمان، كان كبيره إذ ذاك جدي إبراهيم عثمان الكبير، فتزوج والدتي وأخذها إلى شبشير وفيها وُلِدْتُ في أواخر سنة خمس وستين بعد المئتين والألف من الهجرة…. “.
يقول الباحث “أحمد طايل” في حديثه عن قرية “حصة شبشير” في العدد ١٦ من مجلة ذاكرة مصر يناير ٢٠١٤م: (وهناك حكاية يتناقلها أهلُ القرية مفادها أن وفدًا من المسؤولين المصريين والإنجليز أتَوا إلى القرية وتقابَلُوا مع عُمدتها وسألوه: هل هذه قرية الإمام “محمد عبده”؟ فتبادر إلى ذهن العُمدة حينها أنهم جاءوا لعِقاب القرية نظرًا لسابق معرفته بمدى كفاح ونضال الإمام ضد الإنجليز، فآثر السلامة ونفى انتسابَه إليها تمامًا، ومن هنا توجَّهَ اهتمامُ الدولة إلى قرية الأب “محلة نصر”، وانصرف الاهتمام عن القرية الحقيقية للميلاد “حصة شبشير”.
يقول الإمام: “عرفتُ أني ابن عبده خير الله من سكان قرية محلة نصر بمركز شبراخيت من مديرية البحيرة … “.
توفي جده (حسن خير الله) وكان شيخًا بالبلدة وأبوه في سن الرابعة عشرة، وعمه “بهنسي” في السادسة عشرة، و”إبراهيم” ابن عم أبيه في الثامنة عشرة، وبسبب الوشاة والظلمة وبمساعدة أعوان الحكومة سُلِبَ كلُّ ما في البيت حتى الأبواب وخشب السقف، فهاجر والده وعمه وابن عمهما من البلدة إلى بلدة “كنيسة أورين مركز شبراخيت” حيث خالُ والدِه الحاج (محمد خضر) عُمدة القرية، لكنه لم يستطع إيواءهم، فأخذهم خفية وسار بهم إلى مديرية الغربية عند أحد أقاربه في قرية (منية طوخ) مركز السنطة، ثم إلى قرية بجانبها تسمى “شترا” (شِنِّرَا البحرية _ مركز السنطة) _ كما أسلفنا في أول المقال _، فاستأجروا أرضًا وعمِلوا في زراعتها، واشتُهِر والدُه “عبده حسن خير الله” بالفتوة والبراعة في الصيد بالسلاح، وأحبه لذلك مصطفى أفندي المنشاوي ومحمد أخوه وهما مفتش وناظر الزراعة في دائرة إسماعيل باشا الخديو، وطابت له صحبتهما، وعَدُّوه كأنه واحد من أهلهما ودام ذلك مدة سنين. ولما كان أبوه يتصف بالأمانة فقد زوجوه السيدة (جنينة بنت عثمان الكبير)، وهناك في قرية “حصة شبشير” تعلم الإمامُ القرآنَ الكريم على يد الشيخ “مخلوف عمر الفقي”. ولعلنا في مقال قادم نذكر لماذا احترم والدَه وأجَلَّه، وهو ما يُمكننا أن نتعلمَ منه الكثير ونعي أن الكرامة وعُلُوَّ المنزلة لا يتعلقان بالثروة ووفرة المال. ولعلك عزيزي القارئ ينبغي أن تعلمَ أن (قرية حصة شبشير مركز طنطا) يُطلَق عليها لقب قرية الشفاءين: القرآن والعسل؛ فهي واحدة من أكبر القرى التي تحتضن الكتاتيب ودور تحفيظ القرآن وحفظة كتاب الله، بجانب أنها مشهورة بتربية النحل وإنتاج العسل وتصديره.
يقول الإمام: “كنتُ أسمع المزاحين من أهل بلدتنا يُلقِّبون بيتَنا ببيت التركمان، فسألتُ والدي عن ذلك فأخبرني أن نَسَبنا ينتهي إلى جَدٍّ تُركماني جاء من بلاد التركمان في جماعة من أهله، وسكنوا في الخيام بمديرية البحيرة مدةً من الزمن.
ولعلك تُفاجَأ أن الإمام “محمد عبده” الذي وصفه الأديب الكبير “عباس العقاد” (1889م _ 1964م) بأنه عبقري الإصلاح والتعليم _ وهو اسم الكتاب الذي كتبه عن الإمام _، وكذلك بأنه أَوْلَى أئمةِ العصر أن يؤتم به. وكان أستاذُه “جمال الدين الأفغاني” (1838م _ 1897م) يقول له: (قل لي بالله.. أي أبناء الملوك أنت)؟! وذلك لشدة اعتزازه بنفسه والثقة المطبوعة على وجهه. ويقول عنه المفكر الكبير الدكتور “محمد عمارة” (1931م _ 2020م) في مقدمة تحقيقه للأعمال الكاملة للإمام: (إنه أعظمُ العقولِ الإسلامية الحديثة التي وَهَبتْ جُلَّ طاقاتِها لتجديدِ الفِكر الإسلامي، ولجَلاء ركام البِدع والخُرافات والإضافات عن أصول الإسلام.. وهو أعظمُ أركانِ مدرسة التجديد الديني في عصرنا الحديث على الإطلاق!)… هذا الإمام يَرى أنه لا يستحق أن تُكتَبَ سيرتُه؛ إذ لم يأتِ لأُمَّتِه بعملٍ يُذكر!! يقول الإمام: ” فما أنا ممن تُكتب سيرتُه، ولا ممن تُترك للأجيال طريقتُه، فإني لم آتِ لأمتي عملًا يُذكر، ولم يكن لي فيها اليوم أَثرٌ يُؤثر، حتى أكونَ لأحدٍ منهم قدوة، أو يكونَ لأحدٍ فيَّ أُسوة…..”!!