محمد محمود عيسى يكتب : الصحفي الرمادي

اللون الرمادي لون بين الأبيض والأسود لا تستطيع أن تحكم عليه بأنه أبيض خالص ولا تستطيع أن تحكم عليه بأنه أسود صافي وكأن طبيعة اللون وخصوصيته ترفض أن تميل إلى الأبيض أو إلى الأسود وحينما تتأمل مسيرة اللون الرمادي تكتشف أن اللون بطبيعته لا يحب الانتماء إلى اللون الأبيض أو إلى اللون الأسود هو يحب أن يكون هكذا بين الألوان رافضا بشدة وبشكل لا إرادي أن تكون له هوية لونية محددة تميزه عن غيره حتى وإن أختلفت بيئة ومناخ الألوان . تذهب إلى مدينة السواد تجده يقطن ويسكن فيها وتخرج منها وتذهب إلى قرية الأبيض تجده واقفا بين المزارعين والفلاحين في وسط حقول القطن ( الأسود ) يمتلك قدرة غريبة وسريعة على الانتقال بين مدن الألوان سرعته على التنقل بين الألوان أشد من سرعة الصوت أو الضوء أما عن الصوت فلا يملك هوية محددة لصوته ولا لهجته فتارة يأتيك صوته وتأتيك لهجته مختلطة بتراب وطين قريته التي ولد ونشأ وتربى فيها في إحدى محافظات ومدن وقرى الصعيد وتارة أخرى يأتيك صوته وتأتيك لهجته مرتدية لهجة العاصمة الزاهية التي استقر وسكن بها فلا تعرف لصوته ولا للهجتة شخصية أو هوية محددة تميزه عن غيره وبسبب انتمائه الشديد إلى مدينة الرماد تجد كذلك صوته ولهجته اكتسبت خصائص وصفات اللون الرمادي فأصبح صوته ذلك الصوت الرمادي وأصبحت لهجته كذلك لهجة رمادية بين الريف والمدينة حتى وإن حاول الانتساب إلى المدينة بلونها الوردي الزاهي
أما عن طبيعة اللون فهو يحاول بكل ما يملك من مهارة وبقدر ما حصل عليه من مكاسب أن يغير من طبيعة وخصائص وصفات اللون الرمادي ويحاول أيضا أن يصنع مكانة خاصة برماديته وانفصاله عن بقية الألوان يسعى جاهدا إلى ذلك ويحاول بقدر ما يستطيع أن يكتسب بعضا من طبائع الألوان المخملية الراقية والفاخرة وفي سبيل ذلك يقرر بينه وبين نفسه الانتماء والتقرب إلى مجتمع الألوان السحابية والسمائية العالية متخليا عن أي شيء ويكاد يكون هاربا من طبيعة ألوان نشأته وقريته فتجده مرة يخرج بقصة شعر حديثة وشبابية من مجتمع الألوان الزاهية والغنية والمفرحة متمردا بشعره على انتمائه وماضيه ومتحديا برمادية رأسه قطار السنين والزمن وكثيرا ما تراه صابغا شعره باللون الرمادي ما بين الأبيض الذي تسلل إلى رأسه وهو يرفضه ويحاربه بكل قوة لأنه يشعر بأن اللون الأبيض في رأسه قد يسحب منه فضيلة الانتماء إلى اللون الرمادي وقد يشعره أكثر واكثر بقسوة وضرواة الزمن والأيام والتي يحاول أن يتنصل من ماضيها ويصنع لنفسه حاضرا من الألوان يغير به طبيعة ما فات خاصة وأن ما فات وما مر من أزمان قد شهد في دواخل نفسه وما يتصوره بينه وبين نفسه هو طغيان ألوان الأعيان في زمن ولى ورحل وانتهى ولكن هذه المرحلة من طفولته وسنوات عمره الأولى ما زالت تشكل جزءا كبيرا من وعيه ومشاعره وعقله الباطن فهو في صراع وسباق مع الزمن لكي يصنع لنفسه مرحلة جديدة من مراحل التمرد والرفض والتعويض عن سنوات تكبر وطبقية الألوان ولكن طبيعة اللون الرمادي وتمرده ورفضه لما فات جعلته في صراع نفسي وحرب مع هويته الأصلية والحقيقية وما تبقى من جذوره وأصوله فيها لذلك لا يحاول أن يقدم شيئا يذكر للحاضنة والقرية التي احتوت في يوم من الأيام فرشته التي كان يلون بها حياته في سنواته الأولى على الرغم مما امتلكه من نفوذ وما وصل إليه من مكانة عالية ومميزة جعلته قريبا ومؤثرا في مجتمع ألوان القرار ولكنه يأبى ويرفض أن يقدم شيئا لطبيعته الحاضنة وقريته التي خطى فيها أولى خطواته نحو مدن الألوان ولا يحاول أن يقدم شيئا لمدينته التي ينتمي إليها بل على العكس يحاول في كل لوحاته الرمادية التي يخرج من خلالها إلى الناس أن يكرس ويؤكد فيها أنه لا ينتمي إليهم ولا يمثلهم بل ينتمي ويمثل مجتمعا آخر غيرهم ولكن بالطبع ومن المؤكد أنهم ليسوا هم
أما عن ثقافة وانتماء الألوان فلا شك أن لكل لون ثقافة تخصه وتميزه عن غيره ينتمي إليها ويدافع عنها تتفق أو تختلف عليها ولكنها ثقافة الألوان أو الوان الثقافة وأما عن مهارة وحرفية وطبيعة اللون الرمادي فقد انعكست على ثقافته وأفكاره وتوجهه فتجدها أيضا ثقافة رمادية تجمع كل شيء تجدها سوداء وبيضاء في آن واحد وهو يحرص في لوحاته التي يخرج من خلالها إلى الناس أن تكون ثقافته رمادية باهته الشكل والصوت فلا هو شديد الانتماء إلى الأبيض ومقاتلا في صفوف الدفاع عنه ولا هو رافض وبقوة وجسارة تفاصيل اللون الأسود لذلك تجده يخسر كل معاركه مع بقية الألوان وفي وقت قصير جدا وبدون مقاومة تذكر حتى في معركة الصوت ينهزم
أما عن انتماء اللون الرمادي فلا تستطيع أن تحكم عليه فهو ينتمي إلى اللون الأبيض بكل قوته وبكل ما يملك وبكل ما وصلت إليه اقدامه من مصالح ومؤائمات ولا هو يحاول أن يظهر انتمائه إلى اللون الأسود بفكره الديني والظلامي وعدائه لألوان الحياة ولكنه يملك مقدرة هائلة على التنقل بين هذه الانتماءات الباطنة المرتبطة بالمصلحة والمكانة والوصول والظاهرة التي يحاول بها أن يكون ممثلا رماديا لمن ينتمي إليهم في باطنه وثقافته الخفية لذلك تجده لا يرفض أن ينتمي إلى مدينة أخرى بعيدة لا يعرفها ولا تعرفه في سبيل الوصول بها إلى مقعد بين الألوان الزاهية وكأنه في سبيل الوصول إلى مقاعد الألوان الزاهية قبل على نفسه أن يكون شاهد زور على ألوان لا ينتمي إليها ولا يعرفها
كثير الصخب يصنع ضوضاء مزعجة يدخل في معارك كثيرة يتمسك بخيوط البقاء يحاول أن يكون رقما مهما في معادلة الحياة
لم يحاول أو يجرب أن ينتصر لجمالية وأخلاقيات الألوان ولا يتوقع في يوم من الأيام أن تقع علب الألوان كلها على الأرض وتتحطم وتختلط كل الألوان ببعضها البعض ولكن في هذه الحالة سيخرج كل لون بشخصيته وهويته التي تميزه عن غيره ونحاول أن نبني المرسم من جديد بألوان جديدة مشرقة ومضيئة محددة وواضحة تعرف طريقها في لوحات بناء ورسم جداريات الحلم والأوطان وعندها سيظل اللون الرمادي لون بلا عنوان .










