د. أماني فاروق تكتب : الإعلام في زمن المؤامرات: صوت الشعب وسلاح البقاء

حين تهتز الأرض تحت أقدام الشعوب، لا تبقى للدفاعات التقليدية وحدها الكلمة العليا. فالصوت الذي يُقاوم في الظلمة، والكلمة التي تصمد في وجه الزيف، قد تكون أبلغ من الصاروخ، وأمضى من الرصاصة. هذا هو الإعلام، حين يكون في موقعه الصحيح، وفي لحظته الفارقة، يتحول من وسيلة اتصال إلى درع وطني، ومن شاشة تُبثّ منها البرامج إلى جبهة تنطلق منها الرسائل الكبرى. وفي زمن امتلأت فيه الساحات بالمؤامرات، وتلبّد فيه الأفق بالشائعات الممنهجة وحروب الجيل الخامس، بات الإعلام أكثر من مجرد مهنة… إنه قضية وطن، ورسالة شعب.
لقد تبدّلت أدوات الحرب، وتغيّرت ساحات المعركة، فأصبح العقل البشري هو الهدف الأول. لم يعد المطلوب احتلال الأرض، بل غزو العقول وتفتيت الإدراك. انتقلنا من صراع الجيوش إلى صراع الروايات، ومن المعارك العسكرية إلى المعارك الرمزية والنفسية. في هذا السياق، لم يعد الإعلام مجرد ناقلٍ للحدث، بل أصبح هو الحدث ذاته؛ هو الميدان، وهو السلاح، وهو أيضًا الهدف.
“رسالة الشعب” في هذا الإطار لم تعد شعارًا عاطفيًا، بل هي التعبير العميق عن وعي جمعي، وعن نبضٍ وطني يرفض الانكسار أمام حملات التشويه. إنها الصوت الحقيقي الذي لا يمكن تزييفه، والدرع الذي يُقاوم به المواطن العادي كل محاولات الاختراق الثقافي والقيمي والفكري التي تُمارَس ضده ليل نهار.
تتحرك مخططات التدمير في هذا الزمن بأوجه متعددة. أحيانًا ترتدي عباءة الشائعات، وأحيانًا تتخفى في ثياب الثقافة البديلة، أو تنفذ من بوابة الإعلام الجديد الذي لا يخضع لقوانين. نعيش اليوم وسط طوفان من الرسائل المُضللة، ومنصات تتفنن في هندسة الوعي الموجَّه، وجيوش إلكترونية محترفة تُجيد خلط الأوراق والتشويش على الحقائق. كل ذلك يحدث تحت مسمى “الحرية”، بينما الهدف الحقيقي هو ضرب الثقة، وتفكيك المعنى، وتشويه الرموز الوطنية، وتقويض تماسك الشعوب.
لكنّ الوعي المضاد لا يقل خطورة عن الحرب المضادة. وهنا يظهر الدور المركزي للإعلام الوطني، ليس باعتباره صوتًا للسلطة، بل باعتباره تعبيرًا عن إرادة شعب، ومرآةً لضميره، وجسرًا بين الدولة ومواطنيها. الإعلام الذي نحتاجه اليوم هو ذلك الذي يفضح المخططات لا يُعيد تدويرها، ويُنتج المعرفة لا يُكرّر الجهل، ويُحصّن العقول لا يُخدّرها.
لقد رأينا كيف استطاع الإعلام المصري، في مواقف مفصلية، أن يُعيد ترتيب الوعي العام، وأن يُعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته. فحين اندلعت حرب غزة الأخيرة، لم تكن الجبهة الإعلامية أقل ضراوة من الجبهة الميدانية، وكانت قناة “القاهرة الإخبارية” نموذجًا يحتذى في المهنية والوطنية. رأينا كيف يمكن للصوت الصادق أن يكون حائط صدّ في وجه العواصف، وكيف تتحول شاشة إلى خندقٍ وطنيّ حين تسكنها الحقيقة ويشغلها الشرف المهني.
غير أن نجاح الإعلام لا يكون بجهد المؤسسات وحدها، بل بالتكامل بينه وبين المواطن. لقد أصبح كل فرد يحمل هاتفًا ذكيًا هو إعلامي محتمل، قادر على النشر، والتأثير، بل وإحداث أزمة أو حلّها. وهنا تبرز مسؤولية المواطن في “التحقّق قبل المشاركة”، وفي إدراك خطورة أن تكون أداة – من حيث لا يدري – في ترويج شائعة أو دعم أجندة مغرضة. المواطن اليوم مطالب بأن يكون شريكًا في معركة الوعي، وجزءًا من جبهة الدفاع عن بلده.
والنخبة الإعلامية، من ناحيتها، لم تعد تملك رفاهية الحياد، أو الاكتفاء بدور الناقل البارد للحدث. بل أصبحت مطالبة بأن تكون طليعة الوعي، ودرع المعرفة، ومرآة الحقيقة. نحن لا نملك ترف أن نكون محايدين حين يُستهدف الوطن، ولا أن نقف متفرجين حين يُحاصَر الوعي ويُشوَّه الانتماء.
ما نحتاجه اليوم هو منظومة وطنية متكاملة تعيد للإعلام اعتباره كمكوّن أساسي في الأمن القومي. منظومة تُعيد تشكيل المناهج التعليمية لتغرس في الأجيال القادمة الوعي الإعلامي والسياسي، وتدعم مراكز الأبحاث لتحليل اتجاهات الرأي العام، وتُشجّع حملات رقمية تعبّر عن “رسالة الشعب” بلغة العصر، وبأدواته. نحتاج إلى منصات إعلامية ذكية، قادرة على التصدي للمحتوى المضلل، ومجهزة بأدوات الذكاء الاصطناعي لرصد الشائعات والتفاعل الفوري معها.
لقد تغيّرت المعادلات، وباتت معركة الوعي هي معركة المصير. في هذا الزمن لا يُنتصر بالسلاح وحده، بل بالكلمة النقية، بالصورة الصادقة، بالرسالة الواعية. الإعلام لم يعد مهنة فقط، بل أصبح رسالة وجودية. وكلما اشتدت المعركة، اشتدت الحاجة إلى إعلام يعرف حجمه وتأثيره، ويعرف قبل ذلك مسؤوليته.
ففي زمنٍ باتت فيه الحقيقة مُحاصرة بالكذب، والهوية مستهدفة بالاختراق، لا خلاص إلا بكلمة تُقال بصدق، وإعلامٍ ينبض بضمير وطن. إن بقاء الدول لم يعد مرهونًا بقوة الجيوش فقط، بل بقوة الوعي. و”رسالة الشعب”، حين تسكن إعلامًا حرًا ومسؤولًا، تتحول إلى سلاح لا يُكسر، وصوت لا يُخرس، ودرع لا يُثلم.
—
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الإنتاج الإعلامي