رأفت السويركي يكتب: “العقل المصري” يدير أزمة غزة وينجح… “تراجع ترامب أنموذجاً”!

في أدبيات تعريف السياسة الشهيرة أنها تُعْتَبر “فن الممكن”؛ القابل لتحقيق الأفضل مما تيسر؛ بالرؤية المستشرفة لخطوط الصراع، ومكونات الكتل المندرجة به، مع تقدير أوزانها وقدراتها ومناهجها في “التكتيك والمناورة”. وهذا المنهج يقتضي التأمل والقراءة الواقعية؛ لاختيار أفضل التكتيكات المناسبة للموقف محل الصراع؛ درءاً للخروج بأكثر المكاسب وأقل الخسائر في المسألة.
وتستدعي هذه المقدمة التأمل في براعة “العقل المصري” بمكوناته السياسوية والعسكريتارية والدبلوماسية، وهو يخوض راهناً غمار “إدارة الأزمة الفلسطينية”؛ باعتبارها قضية مركزية مرتبطة بالأمن الوطني قبل أن تكون أزمة خارجية.
إن إدراك مخاطر هذه القضية في أحدث فصولها المرتبطة بما يُسمى “طوفان الفوضى” ـ وأدرك أن العديد عاطفياً لن يقبل بهذا الاصطلاح؛ على الرغم من اعتباره كان تكئة للكيان الصهيوني في تنفيذ مشروعه بفلسطين ـ يجعلنا نشعر بمدى براعة هذا العقل الوطني الماهر.
فهو منذ البدء على لسان “الرئيس عبد الفتاح السيسي” رفض أي مشروع لتهجير الفلسطينين من أرضهم؛ ومحاولة توطينهم خارج غزة وطناً بديلاً؛ وإذا كانت هناك ضرورة حربية لازمة للكيان الغاصب… فليتم نقلهم إلى صحراء النقب كأرض فلسطينية؛ للوصول إلى المطلوب في إطار حل الدولتين المُعطل من دولة الكيان.
ومنذ وقعت الواقعة لم يتوقف “العقل المصري” عن بذل جهود “الحشد السياسوي والإنسانوي”؛ لإنقاذ أهالي غزة المنتكبين بالدمار المذهل الذي فعلته “آلة الدمار الصهيونية” بإجرام في القطاع؛ متجاوزة كل القوانين والقواعد الدولية الإنسانية، وهي مستندة إلى “الدعم الأميركي” الساقط لها. فجرى توجيه “المساعدات المصرية” بسخاء غير منكور؛ فضلاً عن فتح المجال والمطارات والموانئ المصرية لاستقبال المساعدات العربية والغربية؛ ونقلها للقطاع عبر “معبر رفح المصري”؛ مع توفير “فرص العلاج” الطبي في المستشفيات المصرية لأصحاب الحالات من الفلسطينين. وهذا يمثل الوجه الناعم من ذلك الحضور.
وحين أطلق “دونالد ترامب” الرئيس الأميركي “قنبلة الدُّخَان” الشهيرة: بضرورة إخراج الفلسطينيين من قطاع غزة؛ واستلامه لتطويره وجعله منتجعاً سياحياً أميركياً فاخراً؛ كشَّر العقل المصري معلناً غضبه غير المحدود؛ مع رفض هذا التوجه المضاد لكل قواعد السياسة الدولية؛ ولعب العقل المصري في صورته الدبلوماسية دوره في تكثيف الحشد الكبير المضاد لهذا المشروع.
وبين أخذ ورد، كانت خطوة “المبادرة المصرية العاجلة” لعقد اجتماع “قمة عربية طارئة” في مصر؛ وقد تألقت الدولة المصرية بتقديم مشروع حَظِيَ بالإجماع العربي والإسلامي؛ إذ جرى إعداده عبر فرق العقل المصري في فترة قياسية مثيرة ومتكاملة الأركان والتصورات؛ ويتضمن “خطة عربية إسلامية شاملة لإعادة إعمار قطاع غزة من دون تهجير الفلسطينيين، خشية تصفية القضية الفلسطينية، وقد قدرت قيمتها بـ 53 مليار دولار من أجل إعادة بناء غزة على مدى 5 سنوات، تركيزاً على الإغاثة الطارئة وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية”.
وما يدل على براعة ذلك العقل أن الخطة المُجْمع عليها تضمنت:( تشكيل لجنة لإدارة غزوة تتولى إدارة شؤون القطاع في مرحلة انتقالية لمدة 6 أشهر، على أن تكون تلك اللجنة مستقلة ومكونة من شخصيات غير فصائلية تكنوقراطية؛ تعمل تحت مظلة الحكومة الفلسطينية، والتي يجري تشكيلها خلال المرحلة الراهنة تمهيدًا لتمكينها من العودة بشكل كامل للقطاع وإدارة المرحلة المقبلة بقرار فلسطيني). وتضمن المقترح وفق ما تم كشفه: “إنشاء مناطق آمنة داخل غزة يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون بشكل مؤقت، بينما تقوم شركات مصرية ودولية بإزالة وإعادة تأهيل بنية القطاع التحتية.”
وأمام التحشيد المصري الناعم لكل القوى والأوراق الفاعلة والوازنة؛ أطلق الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” ـ كعادته ـ مفاجأته الجديدة؛ بإعلانه المباغت عقب لقائه مع رئيس الوزراء الإيرلندي مايكل مارتن: “لن يُطْرَدَ أحدٌ من غزة، لا أحد يُجْبِر سكانَ غزة على المغادرة”، ووفق مناوراته العديدة أكد خلال مقابلة مع “بريان كيلميد”، بإذاعة “فوكس نيوز”: “خطتي بشأن غزة جيدة لكنني لن أفرضها وسأكتفي بالتوصية، سأجلس فقط وأوصي بها.. وفوجئت بعدم ترحيب مصر والأردن بها، ونحن نقدم لهما مليارات الدولارات سنويا”.
إن المهارة الخفية للعقل المصري ـ حسب التصريحات الإعلاموية ـ كشفت دور “السفارة المصرية” بواشنطن في تحركاتها النشطة لإبراز عناصر الخطة المصرية، وتعميمها على أعضاء الكونغرس الأميركي ومراكز الدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة في إطار تحويلها لخطة دولية بعدما أصبحت عربية – إسلامية. ما جعلها خطة مقبولة وتحظى برضاء جميع الأطراف عدا الكيان الغاصب؛ وهو ينتهز “طوفان الفوضى” لترسيخ بعض مراحل “سيناريو الشرق الأوسط الصهيوني الجديد”.
ويتعملق “العقل المصري العملياتي” في ثوبه العسكريتاري ليقدم الصورة المبهرة للجيش المصري، وحجم حشوداته من العديد والعتاد في سيناء بكثافة ترسانة هائلة قوامها 50 ألف جندي مقاتل، تمثل ردعاً للرد على أي اجتراء يمكن أن يحدث من أي طرف مضاد للأمن المصري وحدوده. وفضلاً عن ذلك مدى التنسيق التوافقي مع الدولتين “الروسية” و”الصينية” الصديقتين، وإمكانية مساندتهما إذا حدثت مواجهات حربية مصرية في مواجهة الطرف الصهيوأميركي.
إن خلاصة تأثير مهارة العقل المصري في “مسألة إدارة قضية غزة” وارتباطها بإعادة إحياء وتطبيع مشروع حل الدولتين المُعَطَّل جعلت “ستيف ويتكوف” مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط ـ حسب شبكة سكاي نيوز البريطانية ـ يعترف: أن “خطة مصر لإعمار غزة بداية إيجابية؛ ومن الضرورى إجراء مزيد من النقاش حول هذه الخطة”.
ومن دون شك فإن مقولة مبعوث ترامب؛ تعيد التذكير بمنهج ثعلب الدبلوماسيية الأميركي هنري كيسنجر في ضرورة تحقيق براعة التسوية باستيعاب “المهزوم والمنتصر في نظام توازن دقيق