رأفت السويركي يكتب: عولمة نظام رأسمالية التفاهة “شعبوية ترامب أنموذجاً”!

حالة الدَّهْشة التي تُهيمن على أفكار العالم كله في الوقت الراهن تتمركز تُجاه نمط الشخصية المُحيِّرة التي يبدو بها الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”؛ في الخطاب والمواقف والسيناريوهات والإشارات؛ مما يقتضي أن نضعها في مكانها الصواب؛ عبر القراءة الاستشرافية لحدث عودته للبيت الأبيض الأميركي من جديد.
إن “دونالد ترامب” ليس مُهَرِّجَاً؛ وليس مُمثلاً؛ وليس مُتَلاعِباً؛ وليس مُدَّعياً؛ وليس مُتَظَاهراً بما ليس به من سِمَات. ترامب كرَجُلِ أعمالٍ وسياسويٍّ ورئيسٍ هو نفسه ترامب الإنسان؛ والَّذي يُذكِّرُك بمن يجلس في المقهى الشَّعْبوي… يُثَرْثِرُ مع الجالسين معه وكذلك مع المُحيطين به أيضاً ممن تسقط نظرة عيناه عليهم، حتى وإن لم تكن تربطهم به أية علاقة خاصة (تحليل الصورة أنموذجاً).
“دونالد ترامب” يستدعي في صورته الظاهرة نمط شخصية ذلك الرجل؛ الذي حسب “اللهجة الدارجة” المصرية “يَشُدُّ النَفَس من الجوزة/الشيشة/الأرجيلة” وبعدها يطلق عبارته؛ وبين كل عبارة وأخرى يسحب نَفَسَاً جَدِيْدَاً؛ ولا بأس من أن يُشير لعامل المقهى بأُصبعه ليسارع بتغيير “حجر التبغ/ المعسل” بآخر ليواصل ثرثراته. هكذا هي صورته في مؤتمراته؛ ولقاءاته واجتماعاته ذات الصبغة الرسمية والتي ينسف نمطها التقليدي. فكل “قواعد البروتوكول” المتعارف عليها دبلوماسياً تتلاشى؛ لتتشكل صورة “عشواءويات المقاهي السياسوية” مع “ترامب” رئيس أكبر دولة مهيمنة في العالم.
والسؤال المنطقي: لماذا يبدو “دونالد ترامب” هكذا؟ ومن الذي يتولى تعميق هذه الصورة، بل وترسيخها لتكون سمةً طبيعية في عالم الدبلوماسية الرئاسوية “الترامبوية” الأميركية الجديدة؛ والذي تقف خلفه “مكاتب التفكير” الخاصة به والاستشاريون العاملون معه في مجالات اهتماماته. وهذا السؤال جدير بالتفكر في أموره، والبحث عن قراءة جديدة له.
وقبل الشروع في ممارسة هذه المُحَاولة؛ ينبغي أن نتذكر العبارة الشهيرة التي قالتها العرب قديماً وهي: “البعرة تدل على البعير؛ وآثار الأقدام تدل على المسير”. إنها لغة قراءة الواقع التي ترسخت في التفكير العربي القديم؛ والتي أيضاً لمنطقيتها تبدو صالحة للتوظيف. فالبعير هو (الجمل/ الإبل)؛ والبعرة هي (الرجيع / الروث) الذي يخرجه. ونوع البَعْرة الملقاة على (الطريق/المسير) يَدلُّ على مُنْتِجِهَا؛ وذلك لارتباطها بـ “مبدأ السَّبَبِيَّة” الفلسفي القائم على الارتباط بين “حدث أول يُسمى السَّبب وحَدَثٍ آخرٍ يكون نتيجة له يُسمى الأثر”.
وهُنا نَدْلفُ إلى قراءة “النَّمَط الترامْبَوي” في الظهور السياسوي الأميركي الجديد؛ والذي لا تتوقف أجهزة الإعلام المرئية العالمية و”وسائط التواصل الاجتماعوي العولمية” عن ترويجه؛ وتعميق حضوره وترسيخه في “الذهنية العالمية الشعبوية المُتَلقِّية”. فكيف تدل مسلكياته على حضوره الذي يندرج في تلك العبارة العربية البليغة؟
** “دونالد ترامب” يكسر كل القواعد المستقرة في نمط المؤتمرات واللقاءات والمحاورات، التي تمثل مسلكاً ثابتاً دبلوماسياً يستخدمه العالم كله؛ ويوظف في ذلك قوة الحضور الأميركي العميق المعبر عن الهيمنة كوريثة لنمط الاستعمار الرأسمالوي القديم (بريطانيا وفرنسا.. إلخ)؛ وهو على يقين من جَبْرِيَّة الآخرين بالاستماع إليه وصولاً لمقصود خطابه!
** “دونالد ترامب” يُروِّج بمسلكيته تلك لنمط النرجسية الشخصانية “الفاقعة” والمعتدة بذاتها؛ قبل أن يقدم تصوراته المفترض أن تكون مكاتب التفكير الرئاسية الخاصة به قد أمتدته بها؛ وفق متغيرات مرحلته وتحدياتها التي تهدد الهيمنة الاميركية. هو يستصنع صورة منفلته عن كل القواعد الدبلوماسية المعروفة، ليبدو كأنه يقدم جديداً في علم السياسة الحديث. ولعل دافعه في ذلك أن يقوم بتشكيل “صورة زعامة أميركية خاصة جديدة”؛ وهو يستكمل سلسلة السابقين بدءاً من جورج واشنطن 1789-1797م وصولاً إليه في فترته الثانية.
** “دونالد ترامب” يلعب بمنهج إبراز ذاته منفرداً وغير مسبوق في مسلكيات ساكني البيت الأبيض الأميركي؛ منتهجاً أسلوب المباشرة في الكلام؛ لا يَحُوْر ولا يدور ولا يُخفي ما يريد الوصول إليه بالمباشرة في الكلمات، والمطالب المحددة والمغايرة لكل المستقر في الواقع؛ وهو يدرك أن طريقته تلك مُغايرة لكل المُعَلَّبَات الرئاسية المفروضة بالبروتوكول. وهذه “السمة الشعبوية” في الولايات المتحدة جعلته يفوز بفترة رئاسة أولى، ويحقق المرحلة الثانية له؛ ما يعني أنه يمثل زعامة شعبوية للناخبين الأميركيين؛ بتواصله عبر اللغة المباشرة التي تصل حتى للمستويات الغاطسة أسفل الوضع العادي فيفوز بإعجابها!
** “دونالد ترامب” يتميز بسيكولوجية الاستحواذ والاكتناز، التي امتلكها من كونه رجل أعمال قبل أن يكون رجل سياسة. وثقته في ذاته تجعله مُهاجماً جريئاً ومباشراً في اللغة؛ ولا يستخدم أسلوب المناورة واللفِّ والدورانِ ليصل إلى مستهدفه؛ ما يرفع من أسهمه لدى العقل الشعبوي؛ لأنه يداعب بذلك هامش المصالح البسيطة لدى جموع الشعبويين المتشوقين لحياة الرفاهية.
** “دونالد ترامب” لا يتوقف عن إشهار مسلكه الشعبوي؛ ولا يقبل بأي مساس به أو محاولة خُدْشِ صورته نتيجة “الأنوية” المتمكنة لديه؛ فهو يرفض وجود من يوجه الانتقاد إليه؛ وعلى الفور يمارس الانفعالية في رد الفعل؛ فهو بدلاً عن استصناع ابتسامة باردة على وجهه يوجه نظراته الحادة لمن ينتقده؛ بل ويطلب منعه من مواصلة الانتقاد (واقعة طرد النائب آل غرين من ولاية تكساس إلى خارج قاعة مجلس النواب لاعتراضه على ترامب أنموذجاً).
** “دونالد ترامب” يحدد ما يريد والمحكومة بدافعيه تحقيق الربحوية المباشرة. لذلك يسيطر على نهجه السياسوي التفاوض وليس غير التفاوض؛ فهو لا يلوِّح باستخدام القوة العسكريتارية؛ وإنما يحاول تقديم ما يعني تحقق مكاسب محددة للطرفين؛ وما يعنيه في الأمر هو النتائج؛ لذلك يسلك المباشرة في المطالب (المُشادة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي على الهواء، إجراءات منع الهجرة، ومفاوضات الصين، وتحويل غزة المدمرة إلى منتجع استثماري بتهجير أهلها أنموذجاً)!!
** “دونالد ترامب” حين يتكلم فهو يُخاطب العقلية الشعبوية “الداخل/ أميركية”؛ حيث لا يعنيه الخارج الأميركي الشعبوي أو النخبوي؛ إذ كرجل أعمال لن يستفيد منه بشئ؛ وكثيراً ما يتلاعب بذكائه تكتيكاً مع جمهوره الأميركي؛ وهو يعيد بناء الحُلم بأميركا الكبيرة مرة أخرى؛ ويزيد إمعاناً بالتلاعب بورقة المهاجرين من “دول الحواف” الأميركية؛ وقضايا تهريبهم وتهريب المخدرات و…و… إلخ
** “دونالد ترامب” هنا يمثل التجسيد الجديد للرأسمالي؛ الذي يمارس مقتنعاً وبالتجربة نهج التركيز على الفردانية؛ والتي وفق الدراسات جعلت من “ابن المقاول فريد ترامب” كما وصفوه يتحول إلى ملياردير؛ لا يعترف بغير مفاهيم “أفضل الصفقات” والدولة الجديدة “شركة كبيرة”؛ واعتبار تدخل الدولة القديمة يسبب “الارتفاعات الجنونية في الضرائب”؛ وبذلك فهو يسعى إلى تحرير الشركات الرأسمالية من قيود الحكومة؛ فضلاً عن أن قوانين العمالة والبيئة تصيب الاقتصاد الأميركي بأمراض النمو البطيئ؛ لذلك ينبغي نزع “اليد الحكومية” من اللعبة الاقتصادية لتحرير السوق وزيادة الرواتب لاستقطاب الشعبويين؛ وكل ذلك يكون محكوماً بعبارة”أنا أعرف كيف أجني المال”!
** “دونالد ترامب” يبيع هدفه اللاعب بمشاعر الفقير والغني في أميركا؛ لإعادة إحياء شعارات “أقوى الاقتصادات” لتكون “أميركا القوية سياسوياً قوية اقتصادوياً”؛ فالقوة في مفهومه هي معادل أميركي؛ وهذا ما يمثل إغراءً لاستقطاب المستثمر الأجنبي الكبير الذي سيحقق ربحية هائلة؛ ويوفر فرص العمل المغرية للعمال الأميركيين؛ ويكفي شعاره الخاص بأن أميركا مفتوحة للأعمال والحكومة بعد التغييرات ستسهل الربح للمستثمرين القادمين. وهنا تتجلى صورة “الوعد الترامبوي” بأن الراسمالية تمثل المنقذ للطبقة العاملة… فهل بعد ذلك لا تروج صورة “دونالد ترامب” بين الشعبويين الأميركيين؛ وينحازون إليه ويختارونه باعتباره زعيمهم؟!!
والسؤال الجوهري هنا: لماذا يتمظهر خطاب “دونالد ترامب” بالشعبوية؟ لا ينبغي نسيان أنه أحد فرسان “وسائط التواصل الاجتماعوي” ويتميز بحضور كبير بها؛ وبالتحديد في موقعه “تروث سوشال” المنبر الذي أسسه مشروعاً رأسمالياً بعد طرده من منصة “تويتر”؛ وبه يتولى الترويج للشركات الصغيرة، ومهاجمة الضرائب، والمزيد من الخطابات الخاصة لنهجه.
وهنا يمكن الوصول إلى مربط الفرس في هذه التدوينة؛ وهو أن “دونالد ترامب” يمثل أحدث ظواهر هيمنة ما يُسمى “نظام التفاهة” والذي يذكرنا بالكتاب الرِّيادي والمهم في هذا الحقل للفيلسوف المفكر الكندي “آلان دونو”؛ والذي يؤكد أن التفاهة صارت نظاماً واقعاً في المجتمعات الحديثة؛ بسيطرة التافهين على كل الأمور بشؤون تسييرها.
ويتعمق “آلان دونو” أكثر في التوصيف بالتأكيد على “هيمنة ثقافة النهج الاستهلاكوي” على كل الأمور عبر توظيف التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعوي في السيطرة على أفكار الشعوب؛ وتسيير توجهاتهم، وهو ما يخدم “التفاهة” المقصودة، وتعميق الربحوية للرأسماليين. والمؤسف أن هيمنة “ثقافة التفاهة” حسب تحليله تقتل الابتكار وتقوم بتسطيح الحياة الاجتماعوية؛ فتبدو المجتمعات فقيرة القيم الفكرانية؛ ومتعمقة في مظاهر السطحية التافهة وهاربة من التفكير النقدي.
إن جلوس “دونالد ترامب” في المقعد الرئاسي الأميركي يمثل وفق التصورات الدارسة يعتبر أحدث نموذج لتعميق هيمنة “نظام ثقافة التفاهة” التي بدأت التحكم في العالم؛ بجمهور شعبوي يتميز بالتفاهة وعدم اصطبار العمل على “تنمية التفكير النقدي”.
“دونالد ترامب” يتوج بوضوح “نظام ثقافة التفاهة” بالخطاب الذي يطلقه؛ والقضايا والتشابكات التي يقوم بها؛ ولننتظر المزيد المزيد من التفاهة السياسوية في الأيام المقبلة فيما “عولمة الرأسمالية” تتعمق لتوصف بـ”عولمة رأسمالية التفاهة” والتي يعتبر ترامب أبرز أنموذج لها!!