مختار محمود يكتب: “باتون ساليه بالسمسم هات”!
![](https://misralan.net/wp-content/uploads/2023/09/مختار-محمود-1.jpg)
ذكَّرني تعثر القاريء مرات عدة في ضبط لفظتين قرآنيتين بالغتي السهولة وعجزه عن نطقهما بصورة سليمة بمطرب المهرجانات حمو بيكا، عندما كان يتم تلقينه بكلمات رائعته: “باتون ساليه بالسمسم هات”، وكان يفشل مرة وراء مرة في نطق هذه الكلمات تحديدًا؛ لا سيما أنه لا يعي ما يردد. القاريء أيضًا كان يتم تلقينه، فضلاً عن أنه كان يقرأ من المصحف المفتوح أمامه. القاريء مبصر وليس كفيفًا مثل القراء الراحلين: محمد رفعت وعلي محمود ومحمد حسن النادي ومحمد محمود رمضان وعبد العزيز علي فرج وأحمد أبو المعاطي ومحمد عبد العزيز حصَّان رحمهم الله جميعًا وأحسن إليهم. الخطأ وارد لا ريب، والسهو محتمل لا شك، ولكن عندما يتعثر القاريء على هذا النحو البائس، ثم يأتي تبريره للخطأ على نحو أشد بؤسًا، فإننا نكون أمام أزمة حقيقية يتعامى القوم عن التعامل معها، وتأخذهم العزة بالإثم، وطالما حذرنا منها ومن تداعياتها.
استمعت إلى مسمع من قرآن الفجر الذي ارتبك القاريء فيه أيَّما ارتباك، وبدا أن هذه الآية لم تمر عليه، ولم يسمع بها من قبل، وكلما لقنوه تعثر وأخطأ وتلعثم، رغم إبلاغه مسبقًا بـ”الرُّبع” الذي سوف يقرؤه، ثم شاهدت فيديوهات عدة لـ”حمو بيكا” أثناء تلقينه كلمات أغانيه، وهو لا يكاد يبين. القاريء والمطرب هنا يلتقيان في أنهما مجرد أداة صوتية، أحدهما يقرأ والثاني يغني، دون فهم واستيعاب.
القاريء الإذاعي الشيخ قطب الطويل يقول إن هناك قرآنًا لم يُقرأ بعد على دكة التلاوة، في إشارة منه إلى أن عديدًا من القراء يركزون على بعض الأرباع القليلة التي يقرؤونها في العزاءات، ويتخذون بقية القرآن مهجورًا، وما حدث في مناسبات مختلفة في قرآن الفجر دليل دامغ وساطع على ذلك.
فارق كبير بين أن تكون مستوعبًا ما تتلوه أو تغنيه، وبين أن تردده دون إدراك لمدلولاته ومعانيه. في الحالة الأولى يكون القاريء أو المطرب قادرًا على تبليغ المعنى وإيصاله، أما في الثانية فإنه يكون مجرد ظاهرة لا أكثر لا أقل، تأثيره لحظي على أقصى تقدير، ولا يكون إلا بين العوام ومن لا يملكون قطميرًا من عقل رشيد، وأولئك الذين ينصرون القاريء على القرآن!
إذا نحَّينا الغناء جانبًا، وإن كنا قد ذكرناه فقط؛ ضربًا للأمثال، ولإبراز حالتين متقاربتين، فرضهما واقع غريب..فإن تهافت أخطاء القراء الإذاعيين على هذا النحو المستمر والمتكرر يطعن في جدارتهم وأهليتهم من الأساس، ويؤكد الشائعات التي تتردد دومًا حول تمرير بعضهم واعتمادهم إذاعيًا في غفلة من الزمن الغادر. كما إن هذه الخطايا غير المبررة عكست بوضوح شديد عدم اضطلاع لجان الاستماع بالإذاعة والتليفزيون بمسؤوليتها، حتى إنها مررت مَن لا يحفظ بإحكام، واعتمدت مَن لا يتقن وقفًا وابتداءً، وربما لم يسمع عنه. وليس قاريء الفجر الذي قرأ: “اتخذوني وأمي إلهين من دون الله” عنكم ببعيد. الأمر يكون أكثر وضوحًا في سرادقات العزاء وحفلات الليالي الملاح؛ حيث يتحلل كثير من قراء هذا الزمان من الحد الأدنى من الخشوع والالتزام والانضباط أثناء تلاوة القرآن الكريم، قد تصل إلى إلقاء “إفيه إباحي” والخوض فيما لا يليق، وهو لا يزال جاثمًا على دكة التلاوة!
نحن أمام نماذج صارخة من القراء الذين اقتحموا ماسبيرو عبر الأبواب الخلفية والأنفاق السفلية، أو هبطوا عليه بالبراشوت، دون أن يكونوا أهلاً لذلك على أي مستوى. هذا يحدث في مصر فقط. الدول ذات الأقلية الإسلامية تبالغ في صون كتاب الله ولا تتهاون بحقه مثلنا. إن هذا لشيء عُجاب. الأزمة ليست في قاريء أو اثنين أو ثلاثة. الأزمة ليست خطأ عابرًا، ولا قارئًا غير موفق، فجميعنا يخطيء، ولكنها أكبر من ذلك بكثير. نحن أمام ظاهرة مؤسفة جدًا. نحن بصدد طائفة من القراء هم الأدنى موهبة وإتقانًا في تاريخ دولة التلاوة المصرية، ورغم ذلك هم الأكثر سيطرة على البث المباشر على حساب قراء آخرين لا يملكون سوى موهبتهم وحفظهم المتين لمحكم التنزيل، ويتم تهميشهم وتقزيمهم. الدعوات التي أطلقها عديد من المتخصصين والمراقبين بإعادة اختبار من تم اعتمادهم في آخر 25 عامًا على الأقل يجب أن توضع في الاعتبار. الإذاعة جمَّدت منذ سنوات قليلة قارئين “مسنودين” لأسباب متباينة، فلِمَ المناورة والهروب الآن من الإقدام على هذه الخطوة؟ أضعف الإيمان أن يتم إبعادهم عن البث المباشر؛ بحيث تخضع تلاواتهم للمراجعة الدقيقة قبل إذاعتها، إن لم يكن منها بُدٌ. التماس الأعذار في مثل هذه الأمور حُجة ساقطة ومتهافتة وأصحابها ماكرون آثمون مراوغون. أنصاف الحَفظة وأرباع المتعلمين والشماشرجية المتقاعدون والمصورون السابقون ومنادو السيارات الذين تحولوا إلى قراء ليسوا أكثر من نقاط سوداء في ثياب دولة التلاوة الذي كان ناصعًا.