مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: عودة الروح إلى “القرآن الكريم”..والتحدي الأعظم

أمَا وقد انزاح غمُّ الإعلانات عن إذاعة القرآن الكريم بعد عشر سنوات كاملة، فإنَّ ذلك يتطلب إصلاحًا جذريًا للشبكة الدينية التي أصابها ما أصابها خلال هذه الحقبة؛ لأسباب عديدة لا تخفى على أحد. منطق الأشياء يقول: إن مَن صنعوا الأزمة لا يجب أن يتم تكليفهم بالإصلاح؛ لأن هذا–إن حدث- سوف يجدد الفشل. كانت الإعلانات كابوسًا طويلاً اجتاح إذاعة القرآن الكريم منذ منتصف العام 2014 برعاية رئيس الإذاعة في ذلك الوقت عبد الرحمن رشاد الذي لم يختلف موقفه عن موقف رئيس الإذاعة الحالي محمد نوار! لا يخدعنك أحدٌ بادعائه أنه كان ضد استمرار الإعلانات أو أنه أعلن الحرب عليها؛ لأن جميعهم كاذبون، مثلما كانوا منبطحين. وقد أفاجئك عندما أخبرك بأن واحدًا هؤلاء المبتهجين –زورًا- بقرار وقف الإعلانات كان يردد في جلساته الخاصة والضيقة جدًا؛ ردًا على الغاضبين من تعكير صفو المستمعين بهذا الكابوس: “ما الجدوى من بقاء إذاعة القرآن الكريم أصلاً..الإعلانات بتجيب فلوس وسوف تزيد وسوف تستمر..واللي مش عاجبه الإذاعة، عنده الإنترنت، يسمع اللي عاوز يسمعه “؟ فهل بعد ذلك كله يتم تكليفه بالإصلاح؟ إن هذا لشيءٌ عُجاب!!
وعطفًا على ما ذكرناه في مقال الجمعة الماضي.. فإنَّ التخلص من الإعلانات –على أهميته- ليس هو الخطوة الوحيدة لإصلاح حال إذاعة القرآن الكريم التي لا تسر إلا عدوًا؛ فالمشوار لا يزال طويلاً، والتحديات صعبة، ولكنها لن تكون أصعب من قرار طرد الإعلانات إلى غير رجعة. لا يزال مستمعو “القرآن الكريم” يطمحون في أبعد من ذلك؛ أملاً في أن تعود الشبكة إلى سيرتها الأولى التي كانت عليها، وتصبح -كما كانت- منارة للوعي والتربية والتقويم والتثقيف وإثراء المعرفة. يأمل المستمعون أن تتم صياغة خريطة إذاعة القرآن الكريم بما يتناسب مع تاريخها العريق وريادتها الحقيقية في العالم الإسلامي؛ بحيث يتم تنقيتها من البرامج الضعيفة والساقطة والمتهافتة والمكررة..ونسبتُها ليست قليلة على أية حال. المؤشرات القادمة من داخل أروقة الشبكة ليست مطمئنة؛ خاصة بعدما عمَد رئيسُها الحالي إلى استبعاد جميع الكوادر المميزة وصاحبة الخبرة من اللجنة المختصة بإعداد خريطة شهر رمضان المقبل. وعلى إثر هذا التصرف المريب اجتاحت حالة من الغضب الشديد أبناء الشبكة؛ بعدما تم إبعادهم لحساب وافدين من خارجها. هذه الأسلوب الإقصائي في الإدارة لا يصنع إلا إخفاقًا. ولأنَّ الشيء بالشيء يُذكر.. فإن أقدم إذاعة دينية على مستوى العالم الإسلامي لن تحقق طفرة في مستواها ومحتواها دون أن يكون على قمتها إداري متجدد ومبتكر، وليس مجرد موظف يُؤمَر فيُطيع؛ حتى يضمن البقاء في منصبه، والتجديد له عامًا بعد عام، أو تصعيده في “الأسانسير” الوظيفي!
يتطلع المستمعون إلى إلغاء برنامج الوزير المعزول فورًا؛ باعتباره وصمة وجريمة إذاعية متكاملة الأركان، ما كان ينبغي غضُّ الطرف عنها حتى الآن. يحلم المستمعون بأن يتم إبعاد المذيعين غير المؤهلين عن أثير إذاعة القرآن الكريم: علميًا وصوتًا وأداءً، وإبعادهم إلى محطات تناسب إمكاناتهم الضئيلة، حتى لو تطلب الأمر الاستعانة –مؤقتًا- بالكوادر الإعلامية السابقة من أصحاب الفضل والعلم والجماهيرية الكبيرة، ولعلهم لن يمانعوا أبدًا.
يطمح المستمعون إلى زيادة المساحة المخصصة للتلاوات القرآنية المُجودة، تأكيدًا على اسمها ورسالتها الأصلية التي أنشئت من أجلها قبل ستين عامًا، وسوف يتطلب ذلك التنقيب في تراث أكابر مؤسسي دولة التلاوة المصرية في عصرها الذهبي. هناك قراء بارزون يتم حصرهم في تلاوتين أو ثلاثة على الأكثر، رغم تراثهم الضخم. الإصلاح يتطلب أيضًا تجفيف برامج الرغي والأحاديث الموضوعة والإسرائيليات التي تقدم صورة مشوهة عن الإسلام، ومن ثم تجنيب الشبكة الدعاة والمتحدثين من ذوي المستوى المتردي من خدم الوزير المعزول، والتمكين للعلماء الحقيقيين والفقهاء المستنيرين وما أكثرهم! الإصلاح الحقيقي يستلزم إبعاد “التسييس” تمامًا عن محتوى إذاعة القرآن الكريم. يحلم المستمعون بعودة نقل شعائر صلاة الفجر، وصلاتي العشاء والتراويح في رمضان من بيوت الله العامرة، وإن كان الأمر يرتبط بأعباء مالية، فإن هناك بدائل أرخص تكلفة يمكن اللجوء إليها.
أمَّا إذا أراد رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أن يُخلَّد اسمُه في التاريخ فعلاً، فليس عليه سوى التوجيه الفوري والمباشر بإعادة اختبار القراء والمبتهلين الذين تسللوا من الأبواب الخلفية إلى ماسبيرو، في السنوات الأخيرة، عبر لجان وهمية زائفة وأساليب ساقطة، دون حفظ أو إتقان أو موهبة. هذا ليس طلبًا خاصًا، بل هو أمر يُجمع عليه جميع أهل العلم والاختصاص والدراية والاعتبار؛ نظرًا لما طرأ على هذا الفن المصري الخالص والأصيل من مجاملات رخيصة وتوريث سقيم . تطهير إذاعة القرآن الكريم من أراذل القراء والمبتهلين وضعافهم مطلب شعبي وشرعي، وإن كان ولا بد من وجودهم والإبقاء عليهم؛ فليتم إبعادهم عن “البث المباشر”، وحصرهم في التلاوات والأمسيات المسجلة. هذا هو التحدي الأعظم الذي تتضاءل أمامه كل التحديات والقرارات؛ لأنه سوف يعيد إلى تلاوة التلاوة بهاءها المفقود، وإلى فن الإنشاد الديني وقاره المهدور.

زر الذهاب إلى الأعلى