مقالات الرأى

عبد المعطى أحمد يكتب: قاهر خط بارليف

لو أن اسرائيل علمت بما سيفعله بها عقل باقى زكى يوسف لدفعت كل ماتملك مقابل رأس هذا الرجل, ولو أن مسئولى مصر يقدرون رجال مصر حق قدرهم لأقاموا ل باقى زكى يوسف تمثالا من ذهب, وزينوا به قلب القاهرة, والمفارقة أنك لو سألت ملايين المصريين عمن هو باقى زكى يوسف لما وجدت سوى بضعة آلاف فقط يعرفونه, ومبعث المفارقة هو أن مافعله الرجل يضعه على قمة عباقرة العسكرية المصرية, وعلى رأس رجال مصر العظماء, وفى طليعة الوطنيين الذين قدموا خدمات جليلة للوطن, وفى مقابل ذلك كله لم ينل الرجل من مصرحكومة وشعبا جزاء ولاشكورا, بل لم يحظ بقدر يسير من التكريم الذى ناله ممثلون كل مؤهلاتهم فى الدنيا أنهم قادرون على هز الصدور والأرداف والكلام بالعين والحاجب, أو لاعبو كرة انحصر عطاؤهم الوطنى فى إحراز هدف فى مرمى فريق منافس!
وهؤلاء وأولئك يكرمون ويطلق عليهم لقب نجوم, بينما لايلقى أحد بالا ب”باقى زكى يوسف” الرجل الذى أحدث انقلابا فى الفكر العسكرى, والذى حقق بالماء ماتعجز عن تحقيقه المدافع والطائرات والقنبلة النووية, والذى قدم لمصر أحد أهم مفاتيح نصر أكتوبر, فهو صاحب فكرة استخدام المياه فى فتح ثغرات فى الساتر الترابى الذى أقامته اسرائيل على طول الشاطىء الشرقى لقناة السويس.
يقول الضابط باقى فى حوار معه بجريدة “الوفد” يوم الأحد 4أكتوبر 2009:”عندما هدانى الله لفكرة استخدام المياه فى فتح ثغرات الساتر الترابى لم يدر بخلدى أن أنال شهرة من طرح الفكرة, ولم أفكر مطلقا فى أن أبحث عن مجد شخصى بأن يقال إن فلان هو صاحب فكرة استخدام المياه فى مواجهة الساتر الترابى, ولكنى قدمت الفكرة لبلدى الذى أعشقه, وكان أملى أن نستفيد من تلك الفكرة فى تحقيق النصر والحمد لله تحقق أملى, والحمد لله على ما أنا فيه, فأنا راض وقانع ولاأتمنى إلا أن أرى وطنى فى أحسن حال”.
وقد تم منح باقى نوط الجمهورية العسكرى من الطبقة الأولى عن أعمال القتال فى حرب أكتوبر 1973, وأنواط التدريب والبحوث الفنية من القوات المسلحة, ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية عندما انتهى من خدمته العسكرية عام 1984.
تخرج باقى زكى يوسف فى كلية الهندسة جامعة عين شمس قسم ميكانيكا عام 1954, وفى ذات العام انضم إلى القوات المسلحة ضابط مهندس, وخدم فى الكثير من الوظائف الفنية, وفى عام 1964 تم انتدابه للعمل فى السد العالى حتى عام 1967, وبعد الهزيمة تم إلغاء الانتداب, وعاد إلى القوات المسلحة, وبدأ الاستعداد لتحرير سيناء, وفى مايو 1969 صدرت التعليمات العسكرية للفرقة 19, وكان رئيس فرع المركبات فيها, وصدرت لها الأوامر بالاستعداد لاقتحام قناة السويس وعبورها وفتح ثغرات فى الساتر الترابى الذى أقامته اسرائيل على الشاطىء الشرقى للقناة.
وبدأ التجهيز لتنفيذ الأمر, وعقد رؤساء الأفرع المختلفة فى الفرقة اجتماعات متواصلة لاستعراض الموقف العسكرى, ووضع خطة العبور, وكان رئيس الفرقة انذاك اللواء أركان حرب سعد زغلول عبد الكريم, وكانت المشكلة الأكبر فى كيفية اقتحام الساتر الترابى.
وفى هذه الأثناء أعلن موشى ديان وزير الدفاع الاسرائيلى أنه لو اجتمع سلاح المهندسين الأمريكى والروسى فلن يستطيعا إسقاط رملة واحدة من هذا الخط الحصين, وقيل أيضا أنه لن يسقط حتى لو تم قصفه بالقنبلة الذرية.!
وفعلا فإن خط بارليف وقناة السويس كانا يمثلان مانعين يصعب على أقوى الجيوش فى العالم اجتيازهما, فالساتر الترابى مائل فى اتجاه القناة بدرجة ميل تبلغ 80درجة وارتفاعه يتراوح مابين 12و20 مترا وعمقه مابين 8و12 مترا, ووصل فى بعض المناطق إلى 200 متر, ووضعت فيه اسرائيل امكانيات عسكرية متنوعة ومتقدمة مثل النقاط الحصينة وحقول الألغام والأسلاك الشائكة ومصاطب الدبابات, علاوة على قوات احتياطية على مقربة منه لصد أى هجوم على الساتر الترابى, وقد استغرقت اسرائيل فى بنائه عدة سنوات وتكلف مئات الملايين من الدولارات.
فى البداية كانت فكرة الجيش المصرى لاختراق هذا المانع الرهيب تفجيره بالمتفجرات والألغام والطوربيدات, ثم تطورت الفكرة إلى قصفه بالمدفعية بجميع أعيرتها, وتطورت الفكرة مرة أخرى إلى قصفه بالصواريخ, وكانت المشكلة أن أى من هذه الطرق يحتاج إلى عتاد ضخم جدا وإلى فترة زمنية تصل إلى 48 ساعة وقدرت الخسائر البشرية بنحو 20 ألف جندى مصرى!
كل هذا الكلام أثير فى اجتماع قادة أفرع الفرقة 19, ولأن باقى رئيس فرع المركبات فى الفرقة, فقد استمع جيدا لهذا الكلام, لكن هاله حجم الخسائر وطول وقت التنفيذ وصعوبته, وواصل الاستماع إلى زملائه حول طبيعة التكوين الرملى للساتر الترابى وعن التجارب والبدائل لعملية العبور, ثم قفزت إلى ذهنه فجأة فكرة استخدام المياه فى هدم الساتر الترابى, وقال :لماذا لانجرب المياه المضغوطة لهدم الساتر الترابى؟وساد المكان صمت وسكون, ثم أضاف: لقد استخدمنا ضغط المياه فى السد العالى فلماذا لانستخدمه لإزالة الساتر الترابى؟
اقتنع اللواء سعد زغلول بالفكرة, واتصل بقائد الجيش الثالث الميدانى, وطلب لقاءه,وعلى الفور اجتمع اللواء سعد والضابط باقر فى مكتب القائد, وعرض باقر-وكان عمره فى ذلك الوقت 36 عاما- فكرته فى وجود كبير مهندسى الجيش, وخلال 12 ساعة تنقلت الفكرة بين أيدى المسئولين ,فعرضت على مدير سلاح المهندسين العسكريين اللواء جمال محمد على, وعلى اللواء ممدوح جاد تهامى نائب رئيس هيئة العمليات واللواء نوفل رئيس الهيئة, وكان لابد من عرضها على الرئيس جمال عبد الناصرالذى قال:”نجربها”.
وتمت أول تجربة فى سبتمبر 1969, وقام بها سلاح المهندسين, وتم إجراء 300تجربة كان آخرها فى جزيرة البلاح فى الاسماعيلية .
وعندما تولى الرئيس أنور السادات كانت الفكرة موضع التجريب وعندما ثبتت صلاحيتها تم اعتمادها وانتهى الأمر.
وفى الساعة الثانية وأربعين دقيقة ظهر يوم 6أكتوبر بدأت الزوارق المحملة بالطلمبات والخراطيم تبحر إلى الضفة الشرقية, وبعد لحظات اتخذت مواقعها, وتم تركيب الطلمبات وتغيل الماكينات, وخرجت المياه مثل المنشار تشق الساتر الترابى, وفى أقل من 3ساعات اسقطنا 90ألف متر مكعب من الساتر, وفى الساعة السادسة مساء يوم 6أكتوبرتم فتح أول ثغرة فى الساتر الترابى, وفى العاشرة مساء وصل عدد الثغرات إلى 60 ثغرة.
باختصار أصبح خط بارليف المنيع كالغربال خلال 15ساعة, وهو وقت قياسى, فلقد كانت اسرائيل على ثقة أن فتح ثغرات فى الساتر الترابى يحتاج إلى 48ساعة على الأقل,كما أن استخدام المياه لم يؤد سى استشهاد 78 جنديا فقط.

زر الذهاب إلى الأعلى