مختار محمود يكتب: إصلاح “القرآن الكريم”..من هنا نبدأ
الآن وجبت؛ فقد رحل المسؤول الكبير الذي أفسد إذاعة القرآن الكريم بتدخلاته الفجَّة عن منصبه. لم يفعل أي وزير أوقاف سابق ما فعله الوزير الأخير بالإذاعة الدينية الأقدم؛ فقد أقحم نفسه في أثيرها، مصطحبًا أقاربه ومعارفه، ومانعًا غيرهم، فكان ما كان!! الرئيس الأسبق للشبكة الدكتورة هاجر سعد الدين كانت قد رفضت الوزير السابق ضيفًا ومتحدثًا على هواء “القرآن الكريم” قبل استوزاره، وما إن ظفر بالمنصب الرفيع حتى ولَّى وجهه شطرها واعتبرها ضمن “وسية الأوقاف”، واستوطنها، أو كأنه أراد الانتقام! رئيس الإذاعة المصرية الحالي ورؤساء الشبكة المتعاقبون ساعدوه في مسعاه غير الطيب بالصمت التام؛ أملاً في الحصول على الرضا السامي الذي يشمل التجديد في المنصب والترقية والتمكين في “عِزب” وزارة الأوقاف ومزايا أخرى..وما أكثرها! الوضع الحالي لإذاعة القرآن الكريم شديد السوء، لا جدال في ذلك؛ بعدما تخلت عن دورها التوعوي والتنويري، وارتضت –عبر مسؤوليها- أن تكون مطيَّة للوزير السابق الذي فعل بها الأفاعيل، حتى أعلن الناس –على اختلاف أعمارهم ومشاربهم- اعتزالهم الاستماع إليها ومتابعتها مُكرهين. لم تعد شبكة القرآن الكريم كما كانت على أي مستوى وصعيد. لقد اختل الميزان وسيطر الهوى وساد الضعف وضاعت الشخصية واختفى السَّمتُ، وصارت الشبكة -التي أبصرت النور قبل ستة عقود- أثرًا بعد عين. أعراض المرض في الشبكة الدينية الأم معروفة ومعلومة، ولا يخفى حالها على أحد؛ بدءًا من الفواصل الإعلانية المطولة والمعيبة، مرورًا بتراجع المحتوى البرامجي بشكل سافر، والعبث بخريطة التلاوات القرآنية، وليس انتهاءً بضعف المذيعين ومقدمي البرامج. يومًا ما كان مذيعو إذاعة القرآن الكريم أعلامًا بارزين يجمعون بين الفصاحة وروعة البيان والحضور الطاغي والصوت المميز وعمق الثقافة. ويومًا ما كان المستمعون يحفظون أسماء المذيعين والبرامج وتوقيتاتها عن ظهر قلب؛ حبًا وارتباطًا.
وإذا نحينا جانبًا كل ما يتردد بشأن وجود رغبة رسمية ممنهجة في إفسادها وإضعافها؛ لأسباب لا نعملها، وإن كنت أظنه مستبعدًا، فإنه وجب الآن تضميد جراح إذاعة القرآن الكريم ووقف النزيف المستمر، والتدخل الجراحي العاجل إن تطلب الأمر؛ حتي يعود الشيء إلى أصله. تصويب المسار المطلوب لن يقوده رئيس شبكة انتهت ولايته، ولا رئيس محتمل لها آتٍ من شبكة مجاورة، أو هابط عليها بالبراشوت، ولا أي كادر من داخلها أو من الشبكات الأخرى كما جرى العُرف. إصلاح إذاعة القرآن الكريم يجب –إن كنا جادين – أن يأتي هذه المرة من خارج هذا المبنى العتيق. الأمر يتطلب الاستعانة بأساتذة وخبراء وأكاديميين بارزين غير موجهين ولا مؤدلجين ولا كارهين للإسلام بالسليقة؛ لوضع أطر وخطوط عريضة لخطة جادة لترميم عوار الشبكة المُتراكم، وإصلاح ما أفسده السابقون..وهو كثير، واستكشاف مواطن الخَللِ الواضحة وتداركها واحدًا تلو الآخر؛ حتى يبرأ الجسد العليل. لقد وصلتْ إذاعة القرآن الكريم في السنوات الأخيرة إلى مرحلةٍ مُتقدمةٍ من الشيخوخة، التي يكونُ من أعراضها الخَرَفُ، حيثُ فقدت كثيرًا من بريقها الذي كان يُزِّينُها في مراحلَ استثنائية من تاريخها، وهجرها قطاعٌ كبيرٌ من المستمعين، وهو كُرهٌ لهم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم!!
يتطلع المصريون إلى إذاعة لا تسكنُها النمطيةُ، التي تصلُ في بعض الأحيان إلى السذاجة، حتى أنها صارتْ تُشبه في مُحتواها، ما تقدمه الإذاعات المدرسيَّةُ، فالأفكار مُكرَّرةٌ، مُتشابهةٌ، سطحيَّة، مُثيرةٌ للشفقة حينًا، وسُخرية الساخرين أحيانًا، تقاطعُ الواقعَ كثيرًا، وتخاصمُ العقلَ أكثرَ.
تحتاج إذاعة القرآن الكريم إلى خرائظ برامجية متجددة تنبُضُ بالحياة، وتُسهمُ بـ”دورٍ تربوىٍّ ومعرفىٍّ وتنويرىٍّ” في المجتمع المُتراجع أخلاقيًا بوتيرةٍ متسارعةٍ على جميع الأصعدة والمستويات. يجب أن تكون إذاعة القرآن الكريم الحلقة الأقوى وليس الأضعفَ، في معركة “تجديد الخطاب الديني” وصناعة الوعي الحقيقي، والزود عن الإسلام ضد خصوم الداخل والخارج وذلك لن يحدث دون الانفتاح على دوائر معرفية وثقافية متعددة؛ بعيدًا عن الشيوخ والضيوف الكلاسيكيين الذين يستوطنونها منذ أربعة عقود، والاستعانة بدماء جديدة. وجب التخلص من جميع البرامج والمحتويات التي تجسد عبئًا ثقيلاً على إذاعة القرآن الكريم، وفي الصدارة منها: ما كان يقدمه الوزير المعزول وصهره وأصدقاؤهما ومعارفهما!
تصويب مسار إذاعة القرآن الكريم يتطلب إعادة الاعتبار المفقود إلى التلاوات القرآنية، من خلال منحَها مساحة أكبرَ من خريطة الشبكة والانفتاح على الكنوز القرآنية الثمينة التي يتجاهلها مسؤولوها؛ لأن القرآن الكريم هو الأساس الذي انطلقت الإذاعة من أجله. كما يجب إنصاف القراء المنسيين من الراحلين والمعاصرين وهم كثيرون، وإعادة اختبار جميع القراء والمبتهلين المطعون في جودتهم وكفاءتهم واستبعاد غير الصالحين منهم تمامًا. ثورة التصحيح تتطلب أيضًا إعادة النظر في صلاحية الجيل الحالي من المذيعين؛ فإن منهم مَن لا يليق بوقار وجلال ومكانة إذاعة القرآن الكريم، وضخ دماء جديدة قادرة على إعادة الحياة إليها. وختامًا..فإنه إذا صلحت إذاعة القرآن الكريم وتعافت واستعادت رشدها الضائع، فإنَّ أمورًا كثيرة في هذا المجتمع سوف تتغير حتمًا إلى الأفضل.