مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: القاريء الحبظلم!

يقولون: “حبظلم الرجل”، أي: “صار حبظلميًا”، وتعنى: “اختل عقله أو ذهب بعض عقله وفقد رشده وتخلى عنه ظله”. وقيل: “الحبظلمي هو الشخص الذي يستوي طوله وعرضه وتصطك أسنانه ببعضها عند الكلام ولا يكاد يُبين”. و”الحبظلمي” كما “الرويبضة”، كلاهما سواء، وكلاهما كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأتِ بخير. و”حبظلمت الدنيا” أي: “استوطنها الهّرَج والمَرَج وسادها الحبظلميون”، وفسَّرها أحدهم بقوله: “صارت بزرميطًا”. وتسود “الحبظلمة” في المجتمعات التي تسمح بانتهاك المباديء وكسر المعايير وتحطيم الضوابط الحاكمة وتغييب الحد الأدنى من العدالة؛ لذا تتضاعف حشود “الحبظلميين” في مجتمعات العالم الثالث أكثر من غيرها. والحقبة “الحبظلمية” في تاريخ الممالك والبلدان –كما يقول ابن خلكان- هي الفترة القصيرة التي تسبق زوالها، وانتهاء ذِكرها من التاريخ، حيث يطويها النسيان. وأكثر أهل العلم يَعُدون “الحبظلمي” شخصًا جاهلاً، وهو يعلم علم اليقين أنه جاهل، ولكنه يسعى بكل ما أوتي من جهل إلى ستر عورة جهله بأساليب استقوائية مكشوفة أو طرق تعويضية مفضوحة.. و”الحبظلمية” اسمٌ لأكلة شعبية غير موجودة أصلاً، ولكن يمكن تصنيعها من دمج العدس بالبيصارة مع قطع الباذنجان المشطشطة، وتؤكل باردة بعد رش قدر من السكر المملَّح، أو الملح المسكَّر عليها، ويُفضل سُم الفئران مطحونًا، ويتقاطع إحساسُك عند التهام “الحبظلمية” مع شعورك لدى التعامل مع “الحبظلمي” أو الاستماع إليه، وفي كلتا الحالتين يجب أن تكون على تواصل مُسبق مع أقرب مركز لعلاج السموم!
ومن أكثر المجالات التي توغل “الحبظلميون” وصاروا أسيادًا فيها مجال: تلاوة القرآن الكريم. ولأنَّ سوق التلاوة في مصر قد جبر وانفض منذ عقدين أو ثلاثة في رواية أخرى، فإنَّ أيَّ “حبظلمي” بوسعه أن يكون قارئًا بين عشية وضحاها، وأن يتم اعتماده إذاعيًا بين غفلة عين وانتباهتها. تخلت دكة التلاوة عن تقاليدها الجادة والحازمة والمرعية، فتقافز فوقها وحولها ومن أسفل منها القرود والأراجوزات والمجاذيب، وغدت مسرحًا لإثارة الضحك و”الألش” والقفشات؛ ما مهَّد الطريق لـ”الحبظلميين” أن يستوطنوها ويُقدروا فيها أقواتها. والقاريء “الحبظلمي” ينفق كل غالٍ وثمين من المال والعمر؛ من أجل الحصول على إجازة كاذبة واعتماد إذاعي غير مستحق؛ حتى تكتمل أدواته في الغش والزيف والخداع. و”الحبظلمي” عندما يتلو من محكم التنزيل لا يُشعرك أبدًا بأنه يقرأ قرآنًا أو كلامًا ذا قدسية؛ إذ يستحيل أن تجتمع القدسية مع تشنجات وتنطيط ومد وجَزْر وأراجوزية “الحبظلمي”.
وتُسهم لجنة الاستماع المُوحد في ماسبيرو بنصيب موفور في تعاظم ظاهرة “الحبظلمة” وتفاقمها؛ إذ دأبت في السنوات الأخيرة على تمرير واعتماد قراء “حبظلميين” يجمعون بين ضعف الحفظ ورداءة الصوت وقلة الإتقان وغياب الإجادة وذهاب العقل. ولا جدوى من انتقاد اللجنة –رغم ما تضمُّه في عضويتها من أسماء- فربما تكون مأمورة مجبورة، أو كما يقول “الهضبة”: “زي الزينة ديكور”. وفي وقت سابق ذكرنا كيف تم اعتماد القاريء صلاح الجمل بـ”الأمر المباشر” من أحد الأبواب العُليا، ودون المرور من أمام اللجنة ولو على سبيل “تستيف الأوراق”، في واقعة غير مسبوقة، ولكنها كانت كاشفة لما هو آت. الدفعة الأخيرة من القراء “الحبظلميين” التي تم اعتمادُها سوف تُمهد الطريق وتفتح الباب واسعًا أمام أجيال أشد “حبظلمية”، دخلت مجال التلاوة للشهرة وكسب المال ولا شيء ثالث. وبعدما بقينا سنينَ عددًا في “زمن المسخ”، عزيزي القاريء..أنت الآن وبكل فخر على “باقة الحبظلمة” مفتوحة المدى، ليس في مجال التلاوة فقط، ولكن في كل شيء، وذلك حتى إشعار آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
Chat Icon