مقالات الرأى

د. إيمان إبراهيم تكتب : قالوا عن أبي (1)

تخرج أبي من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، تسلل في مهنة التدريس حتي تقلد منصب مدير عام لمجموعة من المدارس الثانوية العامة، لقبه أهل قريته بالشيخ “إبراهيم عميرة” نسبة لجده، ولم يلقبوه بالأستاذ كما ينادونه في المدرسة، وَجدتُه منذ نعومة أظافري بارًا بوالديه محبًا لهم، لكن الجميع لاحظ ميله الشديد لأمه بدرجه تفوق ميله لأبيه، لذا قالوا عنه رحمة الله عليه إنه “حبيب أمه”.

ربما يقول البعض أن كثير منا لديه نفس الشعور، لكن والدي رحمه الله كانت له وجهة نظر أخري ربما تختلف عن غيرها في سبب ميله لأمه، وهو ما جعله يحب أن يلبي لها جميع رغباتها بل ومشاركتها في اتخاذ أي قرار يخصه، رغم عدم تعلمها وقلة أو ندرة خبرتها في معظم الموضوعات التي يعرضها عليها، ولكنه كان يخاطبها قدر فهمها ويداعبها من باب جبر الخاطر، ويحترم رأيها ويأخذ به في أحيان كثيره.
وهو ما كان يتنافى مع طبيعة الرجل الصعيدي آن ذاك، فهذه المواصفات تجعله “حبيب أمه يعني ابن أمه”، ويعتبر هذا الوصف سُبه وإهانة للرجل، من وجهة نظر أهل الصعيد، ولكنه كان لا يعير لذلك همًا.
حتي أن جدتي كانت أحيانًا تطلب منه بعض الأشياء ولا يقوم بتلبيتها وما عليه إلا أن يقول لها “حاضر من عنيا يا ست الكل” ولكن دون جدوي ودون أن يلبي لها ما شاءت، وأخذ يكرر ذلك مع بعض الحاجات التي تطلبها منه.
إلي أن جاء اليوم الذي نهرته فيه جدتي وقالت له “انت يا إبراهيم يا ابني حلو لسان قليل إحسان” وعندها واجه ما تقوله بابتسامة حانيه يملؤها الخجل، محاولًا إشغالها بحديث آخر حتي تنسي ما كانت تتحدث عنه، واستمر الحال كما هو عليه، حتي صارت جدتي تقول لكل من يسألها عن أبي “إبراهيم ابني حلو لسان قليل إحسان أقوله علي الحاجه يقلي من عنيا يا ست الكل ولا بيعمل أي حاجه”.
إلي أن احتدت ثورتي ذات يوم وهي تتحدث عن أبي وكنت لم ابلغ السابعة من عمري، وقلت لجدتي “أنا مش بحبك ومتقوليش علي بابا كده تاني” وعندها جن جنون جدتي وهي تنظر اليًا شذرًا وتمسك بيدها… وتقول لي “أمشي من هنا يا بت الـ….”
وصرت أهرول خوفًا منها وبحثًا عن أبي حتي وجدته، وقلت له بغضب شديد ونبرة حاده “ليه مبتعملش لجدتي اللي هي عايزاه ينفع اللي بتقوله عليك ده؟”، فتبسم ضاحكًا وقال لي أن ما تطلبه جدتك في بعض الأحيان، لا أقوي علي تلبيته، ولا أريد أن أرفض لها طلبًا تعشمت أن البيه لها حتي لا تغضب وتسرها في نفسها، علي أمل أن تنسي ما طلبته مني يومًا ولكن دون جدوي.
وعندما سألته عن سر حبه وميله الشديد لها دون جدي رغم قسوتها عليه في كثير من الأحيان، فضحك سنه وقال ليس لكونها أمي فقط ولكنني أري فيها ضعف المرأة وقلة حيلتها التي ربما تكمن في عدم تعلمها وجهلها بكثير من الأشياء وعدم السماح لها بالتعبير عن رغباتها أو مشاركتها في أبسط الأشياء التي تُشعرها بالوجود.
فكنت عندما أحاورها ترتسم علي وجهها السعادة والسرور وكأن لسان حالها يقول أنا ليَّا قيمه ورأيي مهم وبإمكاني التأثير في اتخاذ القرارات المهمة، فكل ذلك كان يمنحها الثقة والمدد في استكمال المسيرة عن طيب خاطر، وكانت تغمرني السعادة لشعورها هي بالسعادة، أما أبي فكان يتمتع بما حرمت منه أمي، وهذا ما جعلني اتعاطف معها واحنو عليها أكثر من أبي لشعوري بأنها الأكثر احتياجًا لما أفعل..
ولهذا قالوا عن أبي إنه “حبيب أمه” رحمك الله يا أبي وأدخلك الفردوس الأعلى وجميع موتانا.

زر الذهاب إلى الأعلى