مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: قاريء مصري نابه في أمريكا

رغم حالة التصحر التي تعاني منها دولة التلاوة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة إلا إنه لا يزال في نهاية النفق نورٌ. والقاريء الطبيب أحمد عبد الرحمن الزارع قبسٌ من هذا النور. “الزارع” امتداد طبيعي وغرس طيب للقراء الأوائل. في صوته نفحة من الشيخ محمد رفعت، ولمسة من الشيخ أبو العينين شعيشع، وبصمة من الشيخ كامل يوسف البهتيمي، ولمحة من الشيخ محمد فريد السنديوني. لا يشبه “الزارع” أحدًا من المتقدمين ولا المتأخرين، ولكن له شخصيته المتفردة. آفة الأجيال الأخيرة من القراء التقليد والمحاكاة والتقمص والاستنساخ والاستسهال، وصولاً إلى الاستهبال والاستنطاع والرقص. عاش قراء وماتوا دون أثر؛ لأنهم ذابوا في أصوات غيرهم. الرعيل الأول من القراء..كان لكلٍّ منهم شخصيته الواضحة التي لا تقبل لبسًا ولا تحتمل شكًّا، وتحدد هويته من الاستعاذة والبسملة. “الزارع” ليس مجرد قاريء عابر في تاريخ دولة التلاوة، بل طبيب نابه، وسفير فوق العادة لبلاده في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من عقدين من الزمان. نشأ “الزارع” في بيئة دينية محافظة. تربى على أصوات مشاهير ونجوم دولة التلاوة المصرية، ولا يزال يدين لهم بالفضل الكبير. أتمَّ حفظ القرآن الكريم مبكرًا، ورفع الأذان وأمَّ المصلين في المسجد المجاور لمسكنه بضاحية حدائق القبة القاهرية. كان “الزارع” يحفظ القرآن الكريم في مسجد مجاور لسكن كل من القارئين: محمد صديق المنشاوي وكامل يوسف البهتيمي رحمهما الله تعالى وأحسن إليهما، فكان يحلم بأن يقتدي أثرهما ويحذو حذوهما ويحقق بعضًا من شهرتيهما. تم اعتماد “الزارع” قارئًا بالإذاعة المصرية في العام 1994 فور تخرجه في كلية الطب. لجنة الاختيارات التي ضمت أسماء لامعة في التلاوة مثل: الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ رزق خليل حبة، وفي الموسيقى مثل: فؤاد حلمي وكمال النجار، لم تسجل عليه ملاحظة واحدة، بعد اختبار دام 45 دقيقة. كان “الزارع” مؤهلاً حفظًا وأداءً، فلم يحتج إلى “كارت توصية” للنجاح والتمرير دون اختبارات، كما حدث في الثلاثين عامًا الأخيرة؛ عندما تم اعتماد عشرات القراء دون وجه حق!!
سجَّل “الزارع” تلاوته الأولى بالإذاعة المصرية في العام 1996، وانطلق بعدها مشاركًا في الفعاليات والمحافل القرآنية المختلفة. واتته فرصه السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2002، فطار إلى هناك واستقر وباشر عمله الخاص وتوسع فيه، ولكنه لم ينسَ موهبته الأولى، وهي تلاوة القرآن الكريم، حيث لا يزال مرتبطًا بإذاعة القرآن الكريم، سواء من خلال إرسال تلاوات مسجلة تذاع ضمن الأمسيات الدينية، وكذلك عندما يحضر إلى مصر يشارك في هذه الأمسيات. ولا يزال يحلم بأن تسنح له الفرصة أن يسجل بإستوديوهات الإذاعة عددًا من التسجيلات الطويلة، فضلاً عن المشاركة في شعائر صلاتي الجمعة والفجر، وهي الفرصة التي اقتنصها بسهولة جدًا في غفلة من الزمن وتغييب للعدالة قراء شديدو الضعف والوهن والرداءة!
إلى جانب عمله الخاص في أمريكا..يمارس “الزارع” دوره في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتلاوة القرآن الكريم ورفع الأذان وإلقاء خطبة الجمعة والدروس الدينية دون قيود أو تضييق، وعقد الزيجات، وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. يمتلك “الزارع” ناصية اللغة العربية ويُحكم قبضته عليها، فلا يكاد يلحن في كلمة، أو يرتبك في صياغة جملة نطقًا وكتابة.
“الزارع”.. نموذج عملي على أن دولة التلاوة المصرية لم يصبها العقم كما يوهموننا، ودليل دامغ على أنه لا كرامة للقراء النابهين في وطنهم، وإثبات فعلي على أن المجد اليوم لعوام القراء وضعافهم ورديفهم ومن ينطون الحاء عينًا ومن يستأجرون الميلشيات الإلكترونية للترويج لهم وسب منافسيهم وشتم خصومهم، وسفير فوق العادة مضمونًا وشكلاً لدولة التلاوة المصرية التي كانت، والتي سوف تعود حتمًا يومًا ما!!

زر الذهاب إلى الأعلى