ناصر عراق يكتب: هيكل ولقاءاتي معه

سبع سنوات تمر اليوم 16 فبراير على رحيل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل الذي يعد أهم كاتب صحفي مصري وعربي في القرن العشرين، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقفه السياسية التي ظل يعلنها بجسارة ويشرحها بوضوح حتى أيامه الأخيرة، إلا أن تجربة حياته بالغة الثراء والتفرد، فقد عاش حتى شبع من الأيام كما تقول التوراة عن النبي نوح، (هو من مواليد 23 سبتمبر 1923، ورحل في 2016)، لذا تستحق تجربة حياته هذه الدراسة والتأمل، بل أطالب صناع الدراما لدينا بأن يعكفوا على إنتاج مسلسل يتناول حياة هذا الرجل بوصفه رمزًا من الرموز المصرية اللامعة التي أضاءت سماوات القرن العشرين.
أجل… قرأت كل كتب هيكل ومقالاته أو أكاد، كما شاهدت لقاءاته التليفزيونية كلها تقريبًا وبتركيز شديد، وأخص بالذكر حلقات برنامج (مع هيكل… تجربة حياة/ نحو 217 حلقة) التي ظلت تعرضها قناة الجزيرة لسنوات، وأشهد أن تلك الحلقات تحتشد بمعلومات وصور ووثائق بالغة الأهمية، فضلا عن أسلوبه الشائق في الحكي (أفتح هذا القوس لأرجو صناع الدراما لمشاهدة تلك الحلقات والاستفادة منها من أجل تقديم مسلسل أو فيلم يتناول حياة هيكل).
من حسن الطالع أنني التقيت الأستاذ هيكل وتحدثت إليه وسمعته وجهًا لوجه غير مرة، وأشهد أنه رجل فذ في مجاله، لذا أكرر أن دراسة تجربته العريضة ضرورة لمن يريد أن يعرف كيف يدير المرء موهبته، وكيف يسمو الإنسان ويقتنص المجد، فيرتفع إلى ذرى غير مسبوقة.
صحيح أن الأستاذ تعلم فنون العمل الصحفي في مدرسة محمد التابعي (1896/ 1976) رائد الصحافة المصرية الحديثة، إلا أنه تفوق على أستاذه وعلى مجايليه، ويعود ذلك إلى موهبته المتدفقة ودأبه المدهش وقدرته الخارقة على تنظيم وقته واستثمار خبراته المتنوعة في تعزيز ملكاته الصحفية والسياسية.
مهارات هيكل معروفة، وبراعته في التحليل والاستشهاد تلفت نظر الخصوم والأصدقاء، وعلاقاته المتعددة بكبار الشخصيات المصرية والعربية والعالمية في القرن العشرين تثير الإعجاب، لذا سأتحدث هنا عن لقاءاتي معه وأبرز ما فيها.
المرة الأولى التي رأيت فيها الأستاذ هيكل كانت في مجمع الفنون بالزمالك، قصر عائشة هانم فهمي، في عام 1996، حيث حضر بكامل أناقته لزيارة معرض الفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني. آنذاك كنت أجري حوارًا مع الفنان القدير، وإذا بالأستاذ هيكل يدلف من باب المعرض وبصحبته السيدة زوجته، فيهرع نحوه الأستاذ التوني ويصافحه بحرارة، ويقدمني إليه بشكل لائق.
في القاعات الداخلية من مجمع الفنون كان هناك معرض آخر للفنان يحيي أبو حمدة، فتجول فيه الأستاذ هيكل، ثم اقتنى منه لوحة تمثل الكعبة، بينما يطوف حولها آلاف من المؤمنين، فلما وصل إلى المعرض الكاتب الكبير فهمي هويدي أقبل بتؤدة على الأستاذ هيكل وقبله في كتفه، لكن هيكل عاجله وقال مداعبًا: (تعالى يا فهمي… شوف أنا اشتريت أي لوحة) في إشارة إلى لوحة الكعبة.
أما المرة الثانية والأهم التي التقيت فيها الأستاذ هيكل، فكانت في 22 مايو من عام 2000، وذلك حين أدار الأستاذ هيكل الحفل الذي أقامته جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين بمناسبة الإعلان عن اسم الفائز بالجائزة الأولى في دورتها الأولى، وذلك بحضور الدكتور زياد بهاء الدين ابن الكاتب الراحل وأعضاء لجنة تحكيم الجائزة الذين جلسوا على المنصة عن يمين هيكل وشماله مع الدكتور زياد، وهم الدكتور جلال أمين والدكتورة رضوى عاشور ومدير المكتبة، وقد غاب عن الحفل رئيس لجنة التحكيم المستشار طارق البشري لإصابته بوعكة صحية، بينما جلس كل من الدكتور أحمد مستجير والأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال ساعتها، وهما عضوان في اللجنة… أقول جلسا بين الجمهور.
جرت وقائع الحفل آنذاك في مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك، حيث حضر الاحتفال كوكبة معتبرة من خيرة مثقفي مصر ومبدعيها. ومن حسن حظي أنني كنت هذا الفائز عن كتابي (تاريخ الرسم الصحفي في مصر)، ودعاني الأستاذ هيكل لتقديم كلمة موجزة عن محتوى الكتاب.
تخيل نفسك تتحدث في مسابقة باسم أحمد بهاء الدين وهو مَن هو، ويقدمك الأستاذ هيكل نفسه الذي يتصدر المنصة. وهكذا ارتجلت كلمة لمدة ربع ساعة تقريبًا عن بداية الرسم الصحفي في الصحافة المصرية وتطوره وأهم نجومه خلال قرنين من الزمان تقريبًا، ورغم اضطرابي فإن الجمهور استقبل كلامي بحفاوة كبيرة، وما إن صافحني الأستاذ هيكل مهنئًا حتى قال لي بالحرف: (برافو عليك يا ناصر… لكنك نسيت اسم سانتيس).
على الفور قلت له: (أبدًا يا أستاذ… لقد ذكرته في كتابي، لكن يبدو أن التوتر جعلني أنسى اسمه في كلمتي)، فابتسم الرجل وقال: (ما دمت قد ذكرته…. برافو عليك).
العجب هنا يكمن في أن الأستاذ هيكل ظل ينصت إلى كلمتي بتركيز شديد لمدة ربع الساعة (والصور تشهد بذلك)، وأنه على علم بشخصية سانتيس. وبالمناسبة هذا فنان إسباني هبط مصر عام 1921، أي قبل ميلاد هيكل بعامين، عمل خلالها بالتدريس في مدرسة الفنون الجميلة، كما عمل رسامًا صحفيًّا في مجلة “اللطائف المصورة”، وهو شخص منسي في تاريخنا، فكيف عرفه الأستاذ؟.
ألم أقل لك إن هيكل شخصية فريدة ومذهلة، وإن دراسة تجربته المتفردة ضرورة لمن يحلم بالتفوق والمجد؟.