مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: الغزالي في ذكرى ميلاده الـ 106

0:00

الدعاةُ كثيرون، لكنّ أمثالَ الشيخ (محمد الغزالي) _ رحمه الله _ لا يمرون بالدنيا إلا قليلًا، وليس في تاريخ الدعوة الإسلامية كثيرٌ مثله، فهم قليلٌ في الأولين وقليلٌ في الآخرين.

تمر اليومَ مائةٌ وستةُ أعوام على ميلاد الشيخ الذي وُلد في مثل هذا اليوم 22 من سبتمبر عام 1917م بقرية (نكلا العنب) بمحافظة البحيرة، ولعل البعض لا يعرفون أن الشيخ وحدَه اسمه (محمد الغزالي) أما لقبُ العائلة فهو (السقا).

تخرج (الغزالي) في كلية أصول الدين عام 1941م، وبعدها بعام عُين بوزارة الأوقاف إمامًا وخطيبًا، ويَحكي الشيخ أنه حين تقدم للامتحان التحريري للمسابقة، فكّر مع نفسه، ما السؤال الذي يمكن أن يأتيه في الامتحان؟ وقال: ربما يكون السؤال اُكتب خُطبةً في الموضوع الفلاني!! وبالفعل جاءه الموضوع الذي توقعه، يقول الشيخ: (فكتبتُ وكأنني أنقل من كتاب)!!
قال لي والدي _ رحمه الله _ الذي تتلمذ على يد الشيخ في كلية الشريعة والقانون في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي: (كان الغزالي يمشي من وزارة الأوقاف إلى جامعة الأزهر وهو يتصبب عرَقًا ويقف ليمسح هذا العرق بمنديله القماش، لا يُبالي بالتعب والمجهود؛ إذ كان يرى أنه صاحبُ رسالة لا بد أن يُخلِصَ لها، لذلك كانت كتُبُه هي الأرخصَ ثمنًا، وحين كنا نسأله عن ذلك، يرد قائلًا: يا أبنائي نحن لا نتاجر بالعلم).

ومن منطلق هذه الرسالة توقف (الغزالي) مع نفسه حين قام بعضُ أفراد (جماعة الإخوان) _ كما ذكر هو _ بسطوٍ على بعض كتبه وأفكاره، وتساءل: هل يهمني أن يعرف الناسُ أنني صاحبُ هذه الأفكار، وقائلُ هذا الكلام، أم يهمني أن تصل الأفكار إلى الناس؟! ثم اختار الخيارَ الثاني، وهو خيارٌ لا يُلَقَّاه إلا ذو حظٍّ عظيم، إذ يحمل في طياته نكرانَ ذاتٍ لا يتأتى إلا بإخلاصٍ حقيقيّ.

لعلك إذا دققتَ في صور (الغزالي) بزيِّه الأزهري، وجدتَ أنه يرتدي جلبابًا وليس قفطانًا أسفل الكاكولة، قال والدي _ رحمه الله _: إن (الغزالي) أخبرهم أنه في بداية حياته العملية، وقع عليه الاختيارُ ليخطبَ أمام الملك، وكان يرتدي جلبابًا أسفلَ الكاكولة، فحدَّثه أحدُ أفراد الحاشية بسخرية: (سِيدنا الشيخ جايب الجلابية دي من سوق الكانتو (سوق الملابس المستعملة)؟ دي جلابية تخطب بها قدام الملك؟!!)، كان ردُّ (الغزالي): (أنتم من اخترتموني لأخطبَ أمام الملِك، ولستُ أنا من طلب ذلك)!!
كان الرَّدُّ يَحمِلُ عِزَّةَ العلماء، وعلّق (الغزالي) على الحَدَثِ لطُلابه قائلًا: (ومِن يومِها حَرَّمْتُ على نفسي لُبْسَ القُفطان يومَ كان القُفطانُ شِعارًا للمشيخة)!! واستمرَّ الأمرُ حتى بعد أن فتحَ اللهُ عليه ماديًّا.

امتلك (الغزالي) حريةَ المُفكر، فلم يخشَ الخطأَ وهو يجتهدُ ليبحثَ عن الصواب، وكان صاحبَ مشروعٍ فِكري تتضح فيه القِيَمُ الأساسيةُ للإسلام الذي هو بحق رسالةٌ عالمية لا تتصيدُ الأخطاءَ للناس، ولا تقفُ لهم بالمرصاد، لا يُمكن أن تفرحَ بتعذيبهم وإقامةِ الحدود عليهم، أو تتحينَ الفُرصةَ لتقذفَ بهم في نار جهنم، لذلك لما سُئل عن حُكم تارك الصلاة، قال للسائل: (أن تأخذه من يده معك إلى المسجد)!! إنه رجلٌ فهِمَ مقاصدَ الشريعة، وقال عن الإسلام: (إنه قلبٌ تقيّ وعقلٌ ذكي)، ودعا إلى تحرير العقل الإسلامي من قيود الجمود والتقليد، ووعى ما يهدف إليه نبيُّ الإسلام؛ فـ (مهمةُ الدين إذا رأى عاثرًا أن يُعينه على النهوض، لا أن يتقدمَ للإجهازِ عليه).

كان (الغزالي) يرى أن صلاحَ دنيا الناس بالعدالة الاجتماعية شرطٌ لصلاح قلوبهم بدين الإسلام، “إذ مِن العسير أن تملأ قلبَ إنسانٍ بالهُدى، إذا كانت مَعِدَتُه خالية! أو أن تكسُوَه بلِباسِ التقوى إذا كان جسدُه عاريًا”! (كتاب الإسلام والأوضاع الاقتصادية).

يقول (الغزالي): “الدِّينُ الذي يَسمح باختلافِ الأديان في بيتٍ صغير تتلاقى فيه الوجوه، وتتقاربُ الأبدان، وتشتبكُ المشاعر، (يَقصد زواجَ المسلم من كتابيَّة)… لا يَضيقُ ألبَتَّة باختلافِ الدِّين في وطنٍ كبير تتسعُ فيه المصالح، وتتعددُ الحاجاتُ والكفايات، ويُستحَبُّ فيه التعاون على بلوغِ الغايات”.

ولأن حياتَه من أولها كانت في ميدان الدعوة، كان ختامُها في ميدانها، إذ صعِدتْ رُوحُه إلى بارئِها بقاعة الملك فيصل وهو يشارك في مؤتمر الجنادرية بالسعودية ويوضح الصورةَ الحقيقيةَ للإسلام، وذلك مساءَ يومِ الجمعة 9 من مارس 1996م.

يقول (الغزالي): ” كلُّ تديُّنٍ يُجافي العِلْمَ، ويُخاصِمُ الفِكرَ، ويرفضُ عقدَ صُلحٍ شريفٍ مع الحياة هو تديُّنٌ فقدَ كلَّ صلاحيتِه للبقاء”.

زر الذهاب إلى الأعلى