اللواء د. سمير فرج يكتب : دوائر الأمن القومي “البعيدة”
تعتبر دوائر الأمن القومي، فى أى دولة، مفتاح وجهتها، وبوصلتها عند اتخاذ القرارات الاستراتيجية، وتحديد السياسات المستقبلية المتعلقة بالأمن القومى لتلك الدولة. تنقسم دوائر الأمن القومي، وفقاً لمراجع الاستراتيجيات، إلى ثلاث دوائر عامة؛ الدوائر البعيدة، والدوائر القريبة، ثم الدوائر الخطرة، والتى تشمل أيا من دائرتى الأمن القومى السابقتين.
وبنظرة عامة إلى دوائر الأمن القومى المصري، نجد أن دوائره البعيدة تتمثل فى الدائرة الأمريكية، والدائرة الأوروبية (عدا روسيا)، والدائرة الروسية، ثم الدائرة الآسيوية، وأخيراً دائرة جنوب غرب آسيا. يختلف ترتيب تلك الدوائر وفقاً لأهميتها بالنسبة لمصر، فالدائرة الأمريكية، تعد حالياً، أهم الدوائر البعيدة للأمن القومى المصري، لعدة عوامل، منها اعتماد مصر، إلى حد كبير، على التسليح الأمريكي، من خلال المعونة العسكرية لمصر. بالإضافة إلى الدعم السياسى الحالى لمصر، بعد وصول الرئيس ترامب للسلطة، وحرصه على إعادة التوازن للعلاقات السياسية والعسكرية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، بعد سنوات من حدوث خلل فى ميزان تلك العلاقة الاستراتيجية، القائمة تاريخياً على أساس التحالف. ومن هنا جاءت أهمية هذه الدائرة الأولي المتمثلة فى حاجة مصر إلى الدعم الأمريكي، سياسياً وعسكرياً، خاصة فى المحافل الدولية.
تأتى الدائرة الأوروبية فى المرتبة الثانية فى ترتيب دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، وتعود أهميتها سياسياً، لتمتُع الاتحاد الأوروبى بثقل سياسي، تحتاجه مصر فى مواقفها الدولية، فضلاً عن اعتبارات الجوار بين مصر وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، على شواطئ البحر المتوسط، التى تشاركها فى أمنها القومى من ناحية البحر المتوسط، وتشارك فى تأمين أى أحداث فى شمال أفريقيا، وخاصة الوضع فى ليبيا، الذى يمثل تهديداً للأمن القومى المصري. هذا بالإضافة إلى الأهمية العسكرية، إذ أصبحت الدول الأوروبية تشارك مصر فى سياستها الجديدة فى تنوع مصادر السلاح، خاصة من السوق الفرنسية. وأخيراً، تأتى العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوروبى كمحور ثالث لأهمية تلك الدائرة الأوروبية للأمن القومى المصري، حيث تعمل مصر على زيادة معدلات التبادل التجارى بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، وزيادة تبادل الخبرات ممثلة فى اتفاقات التصنيع المشترك.
أما الدائرة الثالثة من دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، فهى الدائرة الروسية، ومع تراجع ترتيب الدائرة الروسية، إلا أنها لا تزال إحدى أهم الدول التى تربطها بمصر علاقات قوية؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. فعودة روسيا إلى المياه الدافئة فى البحر المتوسط، عزز من دورها السياسى فى المنطقة، خاصة فى المشكلة السورية، والتى تعتبر امتداداً حيوياً لأمن مصر القومي. ولذا تجد مصر وروسيا حريصتين على توطيد علاقاتهما الثنائية، وهو ما يتجلى فى الزيارات المتبادلة بين رئيسيها، وحتى على المستويات الوزارية، خاصة السيادية منها، كتبادل الزيارات بين وزراء الدفاع، ووزراء الخارجية.
أما من الناحية العسكرية، فالسلاح الروسي يمثل نسبة غير ضئيلة فى الترسانة المصرية؛ سواء القديم منه، الذى مازال فى الخدمة، وتعتمد عليه العديد من أفرع القوات المسلحة المصرية، وتحتاج عمليات صيانته إلى قطع غيار روسية الصنع، أو الحديث الذى تم التعاقد عليه مؤخراً، ضمن إستراتيجية تنويع مصادر الأسلحة المصرية.
من الناحية الاقتصادية، فلعل السياحة الوافدة من روسيا، تمثل النسبة الأكبر من دخل قطاع السياحة فى مصر، وتغطى النسبة الأكبر من احتياجاته، فكان توقفها فى أعقاب العملية الإرهابية ضد أحد الطائرات الروسية فى أكتوبر 2015، ضربة قاصمة لقطاع السياحة بصفة خاصة، وللدخل القومى المصرى بصفة عامة، مازالت مصر تعانى تبعاتها حتى الآن، آملين فى عودة السياحة الروسية إلى ما كانت عليه قبل ذلك الحادث الإرهابى الغاشم. كما يمثل التبادل التجارى مع روسيا أهمية كبيرة للدخل القومى المصري، خاصة فى مجال المنتجات الزراعية، إذ تمثل الصادرات الزراعية المصرية إلى روسيا، نسبة كبيرة من إجمالى صادرات مصر الزراعية. أضف إلى ذلك عقد المفاعل النووى بالضبعة، المُوقع بين الحكومتين المصرية والروسية، الذى يعتبر صفقة كبيرة من منظور الاقتصاد الروسي، ونقلة نوعية لمصر، تدخل بإتمامه إلى عصر الطاقة النووية.
وبالانتقال إلى رابع دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، المتمثلة فى الدائرة الآسيوية، فمازال هناك العديد من الجهود التى يجب أن تبذل، لاستعادة مكانة مصر، التى كانت لها فى ذلك البعد الاستراتيجي، فى عهد الرئيس عبد الناصر، من خلال دول عدم الانحياز. ومع ذلك، فلا ننكر الجهود القائمة والمستمرة فى التعاون مع الصين، وتنمية العلاقات الثنائية معها، باعتبارها أحد أهم عناصر تلك الدائرة الآسيوية بالنسبة لمصر، فى ظل بزوغها كقوة كبري، وذات ثقل سياسى واقتصادى وعسكري، فضلاً عن كونها عضواً دائماً بمجلس الأمن، وتربطها علاقات قوية مع معظم دول قارة إفريقيا. وقد بدأت مصر، بالفعل، فى الاستفادة من الصين، فى المجال العسكري، ضمن خطة تنويع مصادر الأسلحة، حيث توفر الصين معدات جديدة ومتطورة، بأسعار تنافسية.
أخيراً، دائرة جنوب غرب آسيا، والتى تعتبر اليابان، وكوريا الشمالية أهم عناصرها، وبالرغم من ذلك لم تتم الاستفادة منهما على الوجه الأكمل. فحجم التعاون الاقتصادى بين مصر واليابان، لا يرتقى إلى حجم الدولتين. كما أن الأوضاع السياسية فى كوريا الشمالية، قصرت حجم التعاون المصرى معها على مجال التصنيع الحربي، لما لها من خبرة فيه.
أما الحديث عن دوائر الأمن القومى القريبة، فإنه يختلف تماماً، لما له من تأثير قوى ومباشر على أمننا القومي، خاصة من دول الجوار القريب، والتى على أساسها توضع الاستراتيجيات المباشرة تجاه هذه الدول، وهو ما سأعرضه بالتفصيل فى مقالات لاحقة.