ثقافة وابداع

الحُبُّ المُعطَّل | نص إبداعي

الشاعر والروائي - أحمد الشَّهاوي

أنت لا تختار من تحب ، وليس في الأمر تعمُّد أو تقصُّد أو تكلُّف ، ولو حدث ذلك فلن يكون ذلك حُبًّا ، ولكن الإنسان يدخل الحُب بعد أن يكون مُهيَّئًا نفسيًّا له ، وفاتحًا أبواب رُوحه لاستقبال المحبُوب المُنتظَر ، وتأتي المُصادفة – والتي تأخذ تسمياتٍ أخرى مثل الحظ ، والنصيب ، والقدر وسواها – في مقدمة حدُوث الحُب ، ولا شك أن الحُب سيقوى بعد المُؤالفة والمُواعدة واللقيا .
فقد يكون المحبُوب معك أو حولك ، أو في مكانٍ ما أنت تتردَّد عليه ، ولكن لم تنتبه إلى ذلك ، ولكن جاء يوم بعد شهرٍ أو ربما سنوات لتكتشف أنك مع شخصٍ أنت تعرفه ، أو رأيته من ذي قبل .
المسألة – فعلا – تخالف التوقعات والمعقُول ؛ لأن الحُب يأتي بلاموعدٍ ولا ترتيبٍ ، والعين عندما تبصر الهوى ، تعمى عن الاختيار . ولا أحد بإمكانه أن يخلق أو يصنع أو يخترع الحُب ، إذْ إنه يأتي بلا أسبابٍ منطقيةٍ متراتبةٍ أو متتابعةٍ أو متراكمةٍ يؤدِّي بعضها إلى الآخر .
فالحُب لا يُتوقَّع ولا يُرتقَب أو يُنتظَر ، إنه يأتي كسيلٍ من علٍ ، وعندما يأتي فإنه يغمرُ ويجرفُ ، ولو علم الإنسان ماذا يفعل الحُب في النفُوس ما بات رجلٌ أو امرأةٌ على هذه الأرض إلا وكان – كانت في حال العشق ومقامه ، وقد قيل : ” لو لم يكُن في العشق إلاّ أنه يُشجِّع قلب الجبان ، ويسخي كف البخيل ، ويصفّي ذهن الغبي ، ويبعث حزم العاقل ، ويخضع له عزّ المُلوك ، وتصرع له صولة الشجاع ، وينقاد له كلّ ممتنعٍ لكفى به شرفًا ” .
أنت تؤثِّر فيمن تُحِبُّ بسلوكك الإنساني إزاءه ، قبل سلوكك الجنسي ؛ لأن اتحاد الجسديْن لا يأتي إلا بعد اتحاد النفسيْن ، فأنت تتصل بمن تحب عبر قناة نفسك أولا ، حتى تحلَّ من قلبك بكل مكانٍ ، ولا يمكن لامرأةٍ أن تستجيب لمن يحبها ، إلا إذا أعطت رُوحها الأوامر لها ؛ كي تفتح أبواب مسام باطنها ، ولا عيش يطيب بين مُحبٍّ ومحبُوب إلا بوصلٍ يكون عمودُه الفقريُّ مُكوَّنًا من ماء الرُّوح الذي لا يشبه سواه ، وهذا لا يعني أنني أنكر اعتقادي وإيماني بأن الوصل الجنسي يؤدي إلى كمال الحُب وتمامه ، وبلوغ ذروته ، وذلك الوصل وحده لا يسُوقُ المرء إلى الحُب .
لأنَّ لا حُبَّ يبقى ، إن لم تكُنْ هناك مُبادلةٌ بين اثنين يتحدان في واحدٍ بفضل الحُب ، ولا يمكن التعويل على حُبٍّ يكون كل طرف فيه يغني منفردًا ؛ لأن المُحب يريد أن يكون له عند المحبُوب مثل ما عنده من حُبٍّ يملأ القلب ، أي لابد من التوازن الذي هو الغاية والمُنتَهى لكلِّ طرفٍ في العلاقة ، التي يرجُوها المُحب أن تكون أبدية ، أي تكون القسمة مُتساويةً بين اثنيْن يستظلان تحت شجرة حُبٍّ واحدة ، بحيث يُكمِلُ كلٌّ منهما الآخر حتى بلوغ مرتبة الإشراق والتجلِّي .
فلا حُب – يمكن أخذه مأخذ الجد – مع صدُودٍ أوإعراضٍ أوإحجامٍ أوتجافٍ .
والحُبُّ الذي لا تشعر معه بالتحقُّق الكامل ، والحرية المُطلقة غير المشروطة لا لزوم له ؛ وزواله أفيد من وجوده ؛ لأنه سيجلب التعاسة يومًا إثر يومٍ ، بدلا من أن يأتي بالسَّعادة الدائمة لصاحبه .
وأي قيدٍ أو أسْرٍ في الحُب هو عنصرُ نقصٍ ، وهذا النوع من الحُب يمكن أن أطلق عليه الحُب المُعطَّل ، الذي يستجلب معه نفورًا وتهرُّبًا وتحجُّجًا ، حتى يصبح الوصلُ الجسدي مُنعدمًا ، وإذا وقع يكون أشبه بنوعٍ نادرٍ من العذاب والألم . وهي الحال التي تسبق القطيعة النهائية – الفِراق ، وطي صفحة لطالما كانت مفتُوحةً تستقبل الكثير من الحِبر والكتابة ، صفحة تنتظر قلمها أن يدخُلَ عميقًا في دواته .
والمرأة السويَّة ، الحقَّة ، الطبيعيَّة في مشاعرها ، والعفْويَّة في أحاسيسها ، والتلقائيَّة في سلوكها مثل الفراشة في استقبالها الحُب ، وانتظارها المحبُوب ، إذْ لا همَّ لها سوى العشق ، وذَكَر الفراش يستطيع تمييز الأنثى عبر حاسة الشم ، حتى لو كانت تبتعد عنه كيلو مترات ، تزيد على العشْر في اتجاه الريح ، وهذا عندي إعجازٌ إلهيٌّ نادرُ الحدُوث ، ويُعتبر مثالا مدهشًا غير مسبوقٍ في الوصول إلى الأنثى ، التي تفرز مواد كيميائية في الجو ، هي التي تجذبُ الذكَرَ نحوها ، إذْ يسعى الذكَرُ طائرًا في المُدن أو الحقُول أو المزارع أو الحدائق أو على الشواطئ ؛ أو الغابات، أوالبساتين، أو المرتفعات الجبلية الباردة ، أوالمناطق الصحراوية الحارة ، أو المناطق المدارية ؛ كي يصل إلى الأنثى ومعه عددٌ آخر من الذكُور ، و” تصل سرعة بعض أنواع الفراشات أثناء الطيران إلى حوالي ثمانٍ وأربعين ساعة لكل كيلومتر ” ، ومن يصل أولا له الفوز بالعشق ، ويظل ساعاتٍ معها مُمارسًا العشقَ في نشوةٍ لا نظيرَ لها بين الكائنات ، بعد أن يكون قد طاف حولها وعانقها ، وبعد قضاء لذَّته ، يمُوت من فورِه إثْر ما بذله من ” عملٍ عشقيٍّ مُضاعفٍ واستثنائيٍّ ” ، كما يمُوت بجواره كُل الذكُور الذين سعوا معه للوصول إلى الأنثى ، وأصابهم الفشل لعدم بلوغهم إليها ، وهذا الموت جاء إثْرَ الإخفاق ، وطول مسافة الطيران إلى الأنثى ، والامتناع عن الأكل ، لكنَّ الأنثى الفراشةَ بعد وصولها إلى اللذَّة القُصْوى ، تختار مكانًا آمنًا لتضعَ بيضَها ابن علاقة العشق تلك ، ثم تقرِّر بإرادتها الموت ، ليبدأ بعدها حبٌّ جديدٌ بين ذكورٍ وإناثٍ ينتمون إلى مملكة عشقها .
وسواء قصرت مدة الوصل أو طالت ، هي عند الذكر تساوي العمر كله ، لأنَّ ثانيةً عشقيةً واحدةً محمولةً على الحقيقة تعدل حياةً بأكملها ، إذْ هي ثانيةٌ عُلويةٌ فردوسية أبديةٌ خالدة من حيث النشوة والسَّعادة ، زمنها ممتدٌّ وبعيدٌ ؛ لذا لا يهم بعدها أن يحيا الكائنُ أو يمُوت .
والمرأة أكثر رُقيًّا من الرجُل في مسألة الحُب الصحيح ، إذ إن الحُبَّ هدفها الأول ، ومُبتغاها الأسْمى ، وغايتها الأهم ، وهو الأصل وليس الصورة أو الظل ، هو الواحد الصحيح ، وليس سواه من كسُورٍ ، وإذا ما غاب الحُبُّ عنها ، تعيش حياةً صعبةً ، معقَّدةً ، ويصيبها الكثيرُ من عدم السَّوَاء ، والفقد في كُلِّ شئ .
وليت الرجل يعرف أنَّ المرأة تحتاجُ إلى العشق أولا ، ثم الوصل الجسدي ، أو الاتصال الجنسي يأتي في مرتبةٍ تاليةٍ ، ولذا تعيش أغلبُ النساء ويمُتن من دون أن يبلغن النشوة ، أو يحقِّقن الرَّغبةَ التامة .

زر الذهاب إلى الأعلى