حازم عبده يكتب : العلاج بالوهم
عملت في إحدى المنظمات الدولية، وكان قدري أن تمر بأزمة مالية طاحنة أعجزتها عن دفع الرواتب، لعدم سداد الدول الأعضاء لمساهماتها، وتلك أزمة خانقة تهدد عمل المنظمات الدولية بخاصة وأن معظمها غير ربحية، وإنما تقدم خدمات للدول الأعضاء في ضوء اختصاصها، وتلك حكاية أخرى حول المنظمات الدولية ومآسي العاملين بها.
كان على رأس المنظمة الدبلوماسي الجيبوتي الكبير الأخ والصديق السفير عيسى خيره روبله،(أبو أمين) المستشار السابق للرئيس إسماعيل عمر جيله وسفير بلاده حالياً لدى السودان، وكان الرجل يكن لي تقديراً واحتراماً، أقدرهما له، وكنا دائماً في حوارات واجتماعات للبحث عن مخرج للأزمة وطرق أبواب الدول الأعضاء بخاصة دول معينة، كان بإمكانها إنقاذ الموقف إلا أنها كانت جزءاً من الأزمة لأسباب ليس وقت الحديث عنها الآن، حتى أن مسؤولاً بإحدى هذه الدول قال لي قبيل الأزمة بالنص: “سوف نعمل هولد على المنظمة”.
كان لنا زميل من بلد بضاعته الكلام،بخاصة الفارغ منه، وكنت ألاحظ أن أخي السفير عيسى يقربه ويبدو معجباً به وهو يتحدث عن حكايات خيالية للخروج من الأزمة، وكان ذلك مسار تساؤلاتنا، وفي إحدى أسفارنا وكنت مرافقاً للسفير عيسى سألته عن سر ذلك على الرغم من معرفته بأن هذا الزميل لا يملك من حطام الدنيا سوى حفنة من كلام فارغ .
لم أتوقع الجواب على الرغم من تعلمي احتمالات وسيناريوهات الردود والأجوبة في مثل هذه الظروف، قال لي أبو أمين: “ألا تعرف العلاج بالوهم” ؟ قلت له كيف؟ فقال كان رجل يصرخ يومياً متوهماً بأن ذبابة تسكن في أنفه، وذهبوا به للأطباء وأجروا له كل الأشعات والفحوصات فلم يجدوا شيئاً إلا أنه كان يصرخ بأنه يشعر بذبابة في أنفه، فما كان من زوجته إلا أن قالت له: الأطباء لا يعرفون شيئاً ولا يفهمون، وأنا ذهبت إلى أحد المتخصصين في الطب الشعبي فقال: بالفعل هناك ذبابة في أنف زوجك وسأعطيك توليفة عشبية يستنشقها وستخرج الذبابة، وأحضرت الزوجة الماكرة التوليفة ووعاءً مملوءاً بالماء، وفي غفلة من زوجها وضعت ذبابة ميتة في الوعاء، وطلبت منه أن يستنشق في الوعاء وبمجرد استنشاقه صرخت الزوجة: الذبابة خرجت، كذب الأطباء وصدق الطب الشعبي، فرح الرجل وشعر براحة شديدة جداً ولم يعد يشكو من طنين الذبابة في أنفه!!
ظلت مصر عقوداً طويلاً تستخدم العلاج بالوهم في الطرق، فتارة تعيد رصف الطريق وتارة تهدم الرصيف وتعيد بناءه مرة بالبردورة ومرة بالخرسانة فيما عرف بـ “سبوبة الرصيف” دون شق طرق حقيقية أو عمل مشروع فارق، والمحصلة نقل الزحام من منطقة إلى منطقة أخرى ثم إعادته مرة أخرى وهكذا، في السنوات الثماني الماضية قررت ألا تستسلم للعلاج بالوهم تركت وصفات العشابين وراحت للأطباء، فكانت المحصلة حقيقية: ألف كوبري وثمانية آلاف كيلو متر جديدة من الطرق،أطالت في أعمارنا بخفض الساعات المهدرة منا في زحام الشوارع، وبالفعل باتت الحركة أيسر وأسرع ولم نعد نخشى الحركة من شرق القاهرة إلى غربها أو من شمالها إلى جنوبها، فسهولة الحركة أهم ركائز أي تنمية.
ليتنا نودع العلاج بالوهم ووصفات العشابين في بقية القطاعات لنلحق بركب الدول التي تقدمت وأنتجت في شتى المجالات، ودائماً أقول: نحن نملك ونستحق ونستطيع.