مايسة السلكاوى تكتب: (حكايات من زمان 4) الحاكم المثير للجدل !!

لم تعرف مصر على مدى تاريخها الطويل حاكم إجتمعت فى شخصيته هذا الكم من المتناقضات مثل الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمى الثالث فى مصر ، وصفه المؤرخون ” بالحاكم المثير للجدل “، فعلى الرغم من حكمه الإستبدادى والقسوة التى عرف بها ، إلا أنه فى البداية كان عطوفا يهتم برعاياه ، ثم تبدلت حياته وتغيرت سلوكياته لدرجة الشذوذ فى تصرفاته وأحكامه ، وازداد جنونه فإدعى “الألوهيه” بعد أن رفعه أنصاره إلى درجة الألوهية وهم من أصبحوا فيما بعد الدروز .
بعد وفاة الخليفة الفاطمى العزيز بالله ، آل الحكم لإبنه المنصور المعروف بالحاكم بأمر الله (المولود سنة 985م ) ، وكان عمره 11 سنة ولصغر سنه ، عهد والده إلى ثلاثة من كبار الدولة يثق بهم ليكونوا أوصياء عليه ، لكنهم حاولوا أن يستأثروا بالحكم ، وعندما شعرالحاكم بقدرته على تولى مقاليد الحكم قتلهم جميعا ليتولى الخلافة وهو فى الخامسة عشرة من عمره . من الطبيعى أن يخشاه الجميع خاصة وقد ساعده بنيانه الجسمانى الضخم على ذلك ، فبدأ حكمه كأى حاكم فى زمانه بالترف والبزخ وايضا السخاء ، وظهر عطفه على رعاياه ، وإذا به تتبدل أحواله ، إلى القسوه والعنف فقام بإعدام أحد المقربين منه ، بل واتبع منهج القتل سواء كانوا من المقربين أو العامة أو كانوا علماء مخالفين لمذهبه الشيعى . بدأ الحاكم فى إصدار تعليمات غريبة منها منع أكل الملوخية والجرجير ومنع بيع السمك بدون قشر وألا يصطاده الصيادين ،وأمر بقتل كل الكلاب الموجودة بالقاهرة ، وقيامه بإلقاء “عشيقته ” فى الماء المغلى لأنها ثرثاره ، وحظر ممارسة لعبة الشطرنج ، وممارساته المتعسفة ضد النساء وفرض عقوبات قاسية على من ترتدى منهن الحلى أوإذا تركن بيوتهن لدرجة أنه منع صناع الأحذية من صنع أحذية للنساء ، كما أمر بعدم فتح أو إقامة شبابيك على الطرق الرئيسية .
كل ذلك بخلاف معاداته للمسلمين السنة ، فنهى عن ممارسة صلاة التراويح وصلاة الضحى ، وحذف عبارة” الصلاة خير من النوم” بعد آذان الفجر بإعتبارها إضافات سنية ، وأمر أن يؤذن لصلاة الظهر أول الساعة السابعة ويؤذن لصلاة العصر أول الساعة التاسعة وإلغاء الذكاة ، وشرع فى تعديل بعض الأحكام الأساسية كالصلاة والصوم والحج .
وعمل على قمع اليهود والمسيحيين واضطهادهم وهدم دور عبادتهم بما فى ذلك كنيسة القيامة بالقدس ،ومنعهم من الإحتفال ببعض أعيادهم ، وإقصائهم عن الحياة السياسية ومنعهم من إقتناء الجوارى والخيول ، وفرض ملابس معينة لهم وإرتدائهم علامات دينية معينة تميزهم عن المسلمين ، ليرتدى اليهود قلادة العجل الخشبية ثم استبدلها بالجرس ، ويرتدى المسيحيون صليب حديد وترتدى نسائهم حذائين مختلفين أحدهما أحمر والآخر أسود وغيرها من الأوامر الغريبة . مما أدى إلى أن لجأ البعض منهم لتغيير دينهم إلى الإسلام لإتقاء أحكامه ، والغريب أنه بعد فترة سمح لهم بالعودة إلى ديانتهم ليكسب ولائهم ، خاصة وأنه ركز عدائه لأهل السنة فأمر بسب الصحابة فى مقدمتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والسيدة عائشة ومعاوية بن أبى سفيان ، وضم ذلك فى وثيقة تم تعليقها على أبواب المساجد والمحلات والمقاهى .
خلال تلك الفترة وفد إلى مصر ثلاثة دعاه من الفرس “ايران”، وأصبحوا من المقربين للخليفة وسرعان ما أصبحت لهم حظوة عند الإمام الحاكم ، فإنهم من وضعوا أساس العقيدة الدرزية ،والدعوة إلى تأليه الحاكم ، فبدأوا بتفسير التصرفات الشاذة للحاكم بامر الله بأنها دليلا على ألوهيته ، وجمعوا حولهم بعض الدعاه واتفقوا فيما بينهم على الدعوة لتأليه الحاكم بأمر الله إعتمادا على أحكام جديدة استنبطوها من أحكام العقيدة الشيعية الإسماعيلية ، وما أن تم الإعلان عن تأليه الحاكم بأمر الله والتى استحسنها ووافق عليها الحاكم ، لم يتقبل أهل مصر الفسطاط هذه الخزعبلات والإفتراءات الدينية ، فثاروا عليهم وتمكنوا من قتل أثنين من الدعاه الثلاثة وفر ثالثهم بحياته إلى الشام ويدعى حمزة الزوزانى وهو من وضع أسس العقيدة الدرزية .
استمر حكم الخليفة الحاكم بأمر الله لمصر 25 سنة ، عاش سنواته الأخيرة منها حياة الزهد والتقشف ، وظل يلبس الصوف سبع سنوات ، واعتاد العزلة والسير إلى الصحراء على حماره ، وذات ليلة ركب حماره متوجها إلى جبل المقطم ،لكنه لم يعد من هناك أبدا ، وبالبحث عنه وجدوا فقط ملابسه ملوثة بالدماء . تضاربت الأراء حول سبب إختفائه ، فقال أنصاره أنه غادر العالم ليعود مرة أخرى كالمهدى المخلص للبشرية ، ويعرف أنصاره اليوم باسم الدروز وكما ذكرنا استقروا فى الشام وهم حتى الآن فى لبنان وسوريا وإسرائيل ، مستمرين فى اعتقادهم بألوهية الحاكم بأمر الله .
وهناك آراء تقول أن شقيقتة الوحيدة “ست الملك” دبرت مؤامرة لقتله بسبب تصرفاته الغريبة ، فكلفت القائد حسين بن دواس زعيم قبيلة كتامة بقتله فقتله، ثم قتلت ابن دواس وكل من علم بالمؤامرة ، ثم أبدت الحزن على أخيها وتلقت العزاء ، وهناك من قال أنه تاه فى الصحراء ومات بها ، أما المقريزى فقال فى خططه : يذكر أنه قبض على رجل من بنى حسين بالصعيد الأعلى ، فأقر بأنه قتل الحاكم بأمر الله فقيل له لما قتلته فقال : غيرة على الله وللإسلام ،وقيل له كيف فأخرج سكينا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه وقال :هكذا قتلته . وبعد إغتيال الحاكم بأمر الله أو وفاته ، تولى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله الخلافة وحارب الإتجاهات التى كانت تنادى بألوهية الحاكم بأمر الله .