مقالات الرأى

د.أمانى فاروق تكتب : أنا وأمي… والمدرسة

حين أعود بذاكرتي إلى الماضي، أجد نفسي طفلة صغيرة تحمل حقيبتها المدرسية، تسير كل صباح نحو بوابة “مدرسة قومية العجوزة”، تلك المدرسة العريقة التي كانت تفوح منها رائحة التاريخ وتزهو بسُمعة لا مثيل لها، فهي المدرسة التي تخرج فيها أبناء الزعماء جمال عبد الناصر وأنور السادات. كنت أبدأ يومي بتحية “عم محمد”، الحارس النوبي العجوز، الذي كان يبتسم لي ويقول: “صباح الخير يا نوارة.” كنت أتصور أنه يخطئ في اسمي، لكني اكتشفت لاحقًا أن “نوارة” تعني الجميلة، وكانت هذه الكلمة كافية لتغمر قلبي بالسعادة، وكأنها دفعة معنوية تملأ صباحي حيوية ونشاطاً.

داخل المدرسة، كانت هناك أركان تحمل في كل زاوية منها ذكرى لا تُنسى. على يمين المدخل حدائق، وفي الواجهة كان هناك “حوش” المدرسة الواسع، لم نكن نطلق عليه “playground”، حيث كنا نركض ونلعب تحت أشعة الشمس، بينما تنعكس في أذهاننا أحلام الطفولة البريئة. وإذا تقدمت قليلاً، ستجد حلم حياتي: المسرح المدرسي. كان هذا المسرح الكبير مجهزًا بكل ما يلزم لإقامة عروض فنية متكاملة، من خشبة المسرح إلى الستائر والإضاءة. كنت أشعر بالفخر كلما وقفت على تلك الخشبة، وكأنها نافذتي إلى عالم آخر مليء بالإبداع.

أما المكتبة، التي كانت تقع على الجانب الآخر، فكانت عالمًا مختلفًا تمامًا، مملكة للكتب والمعرفة، وملاذًا للطلاب الباحثين عن الهدوء والإلهام. في هذا المكان المميز، كانت والدتي، السيدة الراقية “عفيفة الجوهري”، تدير المكتبة بكل شغف. لم تكن والدتي مجرد مديرة للمكتبة؛ كانت قلب المدرسة النابض بالثقافة وحب القراءة. أسست أسرة طلابية لأصدقاء المكتبة، حيث كانوا يمارسون أنشطة متنوعة، ويصممون مجلات الحائط، ويعدون اللوحات الثقافية.

وما زلت أذكر كيف كنت أنتظر بشوق إقامة معرض الكتاب السنوي الذي تنظمه والدتي. كانت الرفوف تمتلئ بالكتب الملونة التي تزينها أغلفة مبهجة تجذب العين والقلب. وكنت، مع كل زيارة للمعرض، أعود إلى المنزل وفي يدي كتاب ملون جديد، هدية من أمي، أتنقل بين صفحاته بسعادة لا توصف. كانت تلك الكتب، التي تجمع بين الألوان الزاهية والقصص المدهشة، النافذة الأولى التي فتحت لي عالم الخيال والابتكار، وزرعت في داخلي شغفًا بالقراءة لا يزال يرافقني حتى اليوم.

لم يقتصر دور والدتي على المكتبة المدرسية فقط، بل امتد تأثيرها إلى المنزل. في بيتنا، كانت مكتبتها الشخصية حاضرة في كل زاوية، تضم كنوزًا أدبية ودينية متنوعة، من تفسير القرآن الكريم للشيخ الشعراوي إلى كتب الدكتور مصطفى محمود، إلى جانب أعمال أدبية واجتماعية أخرى. لم تجلس يومًا بجانبي لتذاكر لي، لكنها علمتني الاستقلالية والانضباط. كنت أجلس وحدي لإنجاز واجباتي المدرسية، بينما كانت هي تمارس واجباتها المنزلية، تلك الأجواء التي عززت بداخلي الإحساس بالمسؤولية منذ الصغر.

حين أتذكر تلك الأيام، أجد أن حياتنا كانت بسيطة، لكنها مليئة بالحب والدفء. كنا نحيا في زمن تحترم فيه العائلة مواعيدها، فنعود إلى المنزل معاً، ونجتمع على مائدة الطعام، ونشاهد المسلسل العربي في المساء. حتى أوقاتنا أمام التلفاز كانت محددة ببرنامج يومي، ما بين أفلام الكرتون القصيرة والنشرة الإخبارية. لم تكن هناك انترنت أو وسائل تواصل اجتماعي، بل كنا نتواصل وجهًا لوجه، نعيش معاً أوقاتاً حقيقية وليست افتراضية.

أما اليوم، فقد اختلف كل شيء. التكنولوجيا التي كان يفترض أن تسهل حياتنا أصبحت عبئاً على الروابط الإنسانية، حيث حلت العلاقات الافتراضية محل العلاقات الواقعية. في الماضي، كانت المدرسة مكانًا يحتضن المواهب ويربي الأجيال، أما الآن، فقد تحولت في كثير من الأحيان إلى ساحة للنزاعات بين الأطفال والمراهقين، كما شهدنا مؤخرًا في بعض الأحداث المؤسفة. أصبحنا نعيش في زمن تطغى فيه السرعة والمظاهر على الجوهر والقيم.

وسط كل هذه التغيرات، لا أملك إلا أن أعود بذاكرتي إلى الماضي، إلى تلك الأجواء التي جمعت بين دفء الأم وحب المدرسة. والدتي، بحكمتها وحنانها، كانت تزرع فيّ القيم الجميلة التي ما زالت ترافقني حتى الآن. المدرسة، بأنشطتها وأركانها، كانت تشكل شخصيتي وتفتح أمامي أبواب الإبداع والمعرفة. هذه الرحلة بين الماضي والحاضر تجعلني أدرك مدى حاجتنا اليوم إلى إعادة النظر في دور الأسرة والمدرسة في حياتنا، وإلى استعادة تلك البيئة الآمنة التي نشأنا فيها.

ما أجمل أن نستعيد معاني الحياة التي تربينا عليها، حيث كانت الأم مصدر الحنان والتوجيه، والمدرسة بيتاً ثانياً يبني فينا القيم قبل أن يعلّمنا الحروف. الماضي كان درساً في الإنسانية، في كيف يمكن للحب والتفاني أن يصنعا فرداً يحمل بداخله إرثاً من القيم الراسخة. واليوم، نحن بحاجة إلى أن نستلهم من هذا الماضي لنصنع حاضراً أكثر دفئاً، ونغرس في أجيالنا القادمة تلك الروح التي تجعل من الأسرة والمدرسة أعمدة حقيقية لبناء مجتمع قوي ومتلاحم، يتلخص في رحلة مماثلة لرحلتي .. انا وأمي .. والمدرسة.
———
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الانتاج الإعلامى

زر الذهاب إلى الأعلى