راندا الهادي تكتب : أحلام الفتى الطائر
لا اعتقد أن أجيال الألفينيات وما بعدها يتذكرون هذا العمل الدرامي من بطولة عادل إمام وعمر الحريري وقصة وحيد حامد وإخراج محمد فاضل ، والذي عُرض لأول مرة على التلفزيون المصري عام ١٩٧٨ ، وقد لجأ الكاتب أشرف عشماوي في روايته الجمعية السرية للمواطنين – التي صدرت عام ٢٠٢٢ – لنفس الحبكة وهي إدعاء أحدهم الجنون للهروب من عقوبة السجن .
وبعيدًا عن الحبكة وقريبًا من اسم المسلسل تتغير أحلام الفتيان والفتيات من عصر لآخر ومن جيل لجيل ، ولكن يظل الهدف الأسمى هو كسب المال والوجاهة الإجتماعية ، ومن باب الإيمان بقيمة الحياة وضرورة أن يكون لنا هدف أسمى من جمع المال والغنى السريع ، كان سؤالي لمن التقي معهم من الشباب في كافة المجالات عن هدفه ومتى سيشعر بأنه حقق ما يتمنى في هذه الدنيا ؟
وفي يوم من الأيام ساقني القدر لألتقي بأحد مدرِّسي المرحلة الثانوية بريعان شبابه فهو لم يكمل الثلاثين من عمره بعد ، وأسأله : متى تقول أنك حققت ما تتمنى من مهنتك وأتممت رسالتك بالحياة؟ ، ولا أكتمكم سرًا كنت متوقعة إجابة مثل : عندما أترك أثرًا لا يُمحى في نفوس طلابي ومستقبلهم ، عندما يتذكروني بالخير أنهم تلقوا العلم على يدي يومًا ما ، لكن الإجابة كانت مختلفة ومثيرة لي ، فقد أجاب بدون ذرة تردد عندما أدخل سنتر به أكثر من ألف وخمسمائة طالب ، عندما اكتفي وأعيش فقط على دروس الاون لاين وأترك التدريس ، وعندما اكتفي من المهنة وتستمر فيديوهاتي على السوشيال ميديا تدر الربح المستمر الذي لا ينقطع ، وقتها أكون قد حققت أحلامي .
وبنظرة ملؤها الخيبة والذهول من أحلام هذا الشاب ، والمرارة مما آلت إليه تروس العملية التعليمية عندنا وأهم محاورها وهو المدرس ، استرجعت في الذاكرة ما قرأته عن علماء المسلمين والعرب الأوائل في كل فروع العلم من البيروني ل ابن الهيثم ل الطبراني و ابن سينا ، وتساءلت ماذا لو سألنا أحدهم حينئذ عن حلمه ومتى يشعر أنه حقق ما يتمنى في حياته ؟ هل كان سيتحدث عن حلقة علم تضم الآلاف وتدر الملايين ، أم حياة مرفهة في قصر ملوكي يصطف الكتبة على جانبي قاعاته بالمئات ليدونوا علمه وينشروه على رؤوس العباد ويبيع النسخة الواحدة منه بالآلاف من السرر الفضية والذهبية .
لكن كيف هذا وقد كانوا حقًا من طلاب العلم ، يسعون وراءه ولو كان في بلاد السند والهند ، ويتحملون المشقة والتعب للاستزادة منه أملًا في خدمة الإنسانية وجعل هذه الحياة عامرة كما أمر الله سبحانه وتعالى ، لقد كانوا يتنفسون خشية وتقى قبل الهواء ، ويقدرون عبء الرسالة الملقاة على كاهلهم باعتبارهم ورثة الأنبياء ، ويدركون تماما تأثير ما يقولونه من معلومات على الأجيال التالية وكيف سيُسألون عنه أمام الله إن قصّروا أو تهاونوا في إيصال العلم .
أعلم أن العصور اختلفت والأزمنة تغيرت ولكن ما لن يتغير أبدًا على هذه الأرض هو رسالة المعلم وقدسيتها وأهمية إدراكه لذلك وإلا ضاعت الأمة وغاب مستقبلها ..
وكما حفظت هذه الأبيات من والدي رحمة الله عليه ، سأحرص على تكرارها على أسماع بناتي ، ليعلموا أن المهنة الأعظم في كل الأزمنة هي مهنة التدريس والتعليم :
قم للمعلم وفِّه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
ما عَلِمت أعظمَ أو أجلَّ من الذي ،
يبني وينشيء أنفسًا وعقولا
سبحانك اللهم خير معلم
علَّمت بالقلم القرون الأولى .