د. أماني فاروق تكتب: عصر الخوارزميات.. القوة الخفية التي تشكل رؤيتنا للعالم
في كل مرة ننفتح فيها على عالم وسائل التواصل الاجتماعي، نجد أنفسنا محاطين بسيلٍ من الصور والمنشورات والفيديوهات التي تُعرض أمام أعيننا. قد نعتقد أننا نتحكم فيما نختار أن نراه، ولكن الحقيقة أن ما يظهر أمامنا لا يخضع لاختيارنا الكامل. وراء هذا العالم الرقمي تقف خوارزميات معقدة تتحكم في ترتيب أولوياتنا، وتعيد تشكيل طريقة تفكيرنا ورؤيتنا للعالم.
ولأهمية هذا الموضوع وتأثيره المتزايد على مجتمعاتنا، كان عنوان مشاركتي البحثية الأخيرة في أحد المؤتمرات العلمية المرموقة حول الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي يدور حول “تأثير خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي على ترتيب أولويات الجمهور”. خلال البحث، حاولت تسليط الضوء على الطريقة التي تُدار بها هذه الخوارزميات، وكيف تساهم في تشكيل قراراتنا اليومية وحتى توجهاتنا العامة، دون أن ندرك ذلك بوضوح.
الخوارزميات، التي تعود جذورها إلى العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، بدأت كأداة رياضية بسيطة لحل المسائل الحسابية. لكنها اليوم أصبحت قوة خفية تتحكم في حياة مليارات البشر. على منصات مثل فيسبوك، إنستجرام، وتويتر، تُستخدم الخوارزميات لتحليل سلوكنا الرقمي، بداية من المنشورات التي نتفاعل معها، مرورًا بالفيديوهات التي نشاهدها، وصولًا إلى المواضيع التي نبحث عنها. بناءً على هذه السلوكيات، تُرتب هذه الخوارزميات المحتوى الذي يظهر لنا، بحيث تحفزنا على البقاء متصلين لأطول وقت ممكن.
ولكن، ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا كمستخدمين؟ ببساطة، يعني أن أولوياتنا تُعاد تشكيلها دون أن ندرك. فعندما تُظهر لنا المنصات الأخبار المثيرة أو المواضيع الجدلية، فإنها تحفز مشاعرنا وتدفعنا للتفاعل، ليس لأنها الأهم، بل لأنها الأكثر جذبًا. مع الوقت، يبدأ التأثير بالظهور على المجتمع؛ حيث نجد أنفسنا منشغلين بقضايا سطحية على حساب القضايا الحقيقية، وتتغير اهتماماتنا لتتوافق مع ما تريده تلك الخوارزميات، وليس ما نحتاجه بالفعل.
هذا التحكم الخفي لا يتوقف عند ترتيب المحتوى فقط، بل يُعيد تشكيل مفاهيمنا عن النجاح، الجمال، وحتى القيم المجتمعية. على سبيل المثال، إنستجرام يُظهر لنا حياة مثالية تبدو بعيدة عن الواقع، مما يدفع الكثيرين إلى مقارنة حياتهم بتلك الصور المُعدة بعناية. وعلى تويتر، تُضخم الخوارزميات القضايا الجدلية، مما يُشعل الحوارات العامة ويزيد من الاستقطاب بين المستخدمين.
ومع كل ذلك، نحن غالبًا لا ندرك هذه القوة التي تتحكم بنا. بل نظن أننا أحرار في اختياراتنا، بينما في الواقع تُحدد لنا هذه المنصات أولوياتنا بطرق غير مرئية.
في عصر الخوارزميات، لم يعد السؤال عن حرية الاختيار فقط، بل عن كيفية إدراكنا لهذا التأثير الخفي. إذا أردنا استعادة سيطرتنا على حياتنا الرقمية، فعلينا أن نكون أكثر وعيًا بما نستهلكه، وأن نتساءل دائمًا: هل ما يظهر لنا يعبر حقًا عن أولوياتنا؟ أم أنه مجرد انعكاس لما تريده تلك الخوارزميات؟
إن عصر الخوارزميات قد فتح لنا آفاقًا جديدة للتواصل والمعلومات، لكنه أيضًا وضعنا أمام تحدٍ كبير: أن نُعيد ترتيب أولوياتنا بأيدينا، لا بأيدي قوة خفية تتحكم فينا من خلف الشاشات.
——-
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الانتاج الاعلامى