مقالات الرأى

د.أماني فاروق تكتب : ما بين العمى والبصيرة “حين ترى العيون وتغفل القلوب”

في لحظات عابرة، قد يأتيك سؤال بسيط ليحرك داخلك عالماً من الأفكار ، سؤال بريء يتردد في ذهن طفل، لكنه قد يحمل في طياته أعمق معاني الحياة.
منذ سنوات قليلة، وبينما كنت عائدة مع ابني “كريم’ من المدرسة والذي كان وقتها يبلغ من العمر عشر سنوات، باغتني بسؤال: “ماما، إيه الفرق بين الأعمى والكفيف؟”
قد يبدو السؤال عادياً للوهلة الأولى، لكنني شعرت حينها أن الإجابة يجب أن تتجاوز مجرد التعريف اللغوي. هناك شيء أعمق في هذا السؤال، يربط بين ما نراه وما لا نراه، بين ما ندركه وما نتجاهله. وهكذا، بدأت أفكر: هل فعلاً الأعمى هو فقط من لا يرى بعينيه؟ أم أن هناك من يعيش بيننا وقد عمي بصره وبصيرته معاً؟
كم من الأشخاص حولنا يمرون بحياتهم وهم يرون الأشياء بعينٍ مجردة، لكنهم لا يدركون حقيقتها؟ في كثير من الأحيان، يكون العمى ليس فقداناً لحاسة البصر، بل رفضاً لرؤية الواقع. بعض الناس يعيشون كما لو أنهم يفضلون الظلام، لأن النور يتطلب مواجهة الحقائق التي قد لا يرغبون في رؤيتها.
الأعمى في هذه الحياة ليس فقط من فقد بصره، بل هو من لا يرى بعين قلبه.
كم من الناس يعبرون يومياً أمامنا، يرون الألوان والصور، لكنهم يعجزون عن رؤية العمق والمعنى وراء تلك الصور؟ هؤلاء هم من يعيشون بعمى البصيرة، يأخذون الحياة بسطحيتها ولا يحاولون التعمق في جوهرها ، في حياتنا اليومية، قد نجد أشخاصاً يختارون العمى بمحض إرادتهم، لا لأنهم فقدوا القدرة على الرؤية، بل لأنهم يرفضون فتح أعينهم على الحقائق التي تحيط بهم.
في العلاقات الأسرية، مثلاً، كم من الآباء والأمهات يرون أبناءهم كل يوم، لكنهم يعجزون عن رؤية معاناتهم الداخلية؟ يمر الأبناء بتجارب نفسية وعاطفية، بينما يظل الآباء مشغولون في تفاصيل الحياة اليومية دون أن يدركوا احتياجاتهم العاطفية. هؤلاء الآباء هم عميان بقلوبهم، حتى وإن كانوا يرون بأعينهم. عدم القدرة على رؤية ما وراء السطح هو نوع من العمى الذي يفقد الإنسان فيه بصيرته، وليس بصره فقط.
من جهة أخرى، الكفيف هو من فقد بصره فقط، لكنه لم يفقد بصيرته. قد تجد في المجتمع أفراداً يعانون من تحديات مادية أو جسدية، لكنهم يملكون حكمة تفوق غيرهم ممن يتمتعون بكامل حواسهم. الشخص الذي يعتمد على بصيرته الداخلية قادر على رؤية ما لا يمكن أن تدركه العيون المجردة. أحد أصدقائي كان كفيفاً، لكنه كان أذكى وأعمق من الكثيرين. لم يكن بحاجة إلى عينيه ليقرأ ما في قلوب الناس، لأنه كان يمتلك بصيرة نافذة تقوده في حياته.
أما الضرير، فهو الشخص الذي كان يرى ثم اختار أن يعمي نفسه بإرادته. هذا هو العمى الحقيقي الذي يختاره الإنسان بوعي، حيث يرفض رؤية الحقيقة رغم أنها واضحة أمامه. نرى هذا العمى في المجتمع حينما يرفض الناس الاعتراف بأخطائهم أو التغيير نحو الأفضل. المسؤول الذي يتجاهل مشكلات شعبه، أو الشخص الذي يختار التمسك بمعتقدات خاطئة رغم وضوح فشلها، هو ضرير. هؤلاء الأفراد يفضلون البقاء في الظلام، لأن مواجهة النور يعني مواجهة الحقائق التي قد تؤلمهم.
في نهاية حديثي مع “كريم”، تأملت في أهمية هذا الموضوع على حياتنا. الفرق بين الأعمى والكفيف والضرير ليس مجرد مسألة لغوية، بل هو درس عميق في كيفية رؤية الحياة. أن نكون مبصرين لا يعني فقط أن نرى بأعيننا، بل يعني أن نفتح قلوبنا وعقولنا لرؤية الحقيقة بكل جوانبها.
لذلك، علينا أن نحمد الله دائماً على نعمة البصر والبصيرة، وألا نكون من أولئك الذين يختارون العمى رغم قدرتهم على الرؤية. ففي نهاية الأمر، البصيرة هي التي تمنحنا الحكمة لنعيش حياة ذات معنى، حيث نرى ما لا يراه الآخرون، وندرك ما يتجاهله الكثيرون.
“ليس الكفيف الذي أمسي بلا بصر… إني أرى من ذوي الأبصار عمياناً”.
————
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الإنتاج الإعلامي

زر الذهاب إلى الأعلى