مقالات الرأى

مايسة السلكاوى تكتب : بوابة مصر الشرقية 2/2

بدأ ميلاد مدينة بورسعيد مع ضرب أول معول لحفر قناة السويس فى 21 أبريل 1859م ، حينها خاطب ديليسبس العمال المصريين قائلا : أذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط ولكن ستجلبون الرخاء لأسركم ولبلادكم .
وكان التفكير الفعلى لإنشاء قناة السويس وبالتالى مدينة بورسعيد ” نسبة لسعيد باشا والى مصر”، حين أكدت اللجنة الهندسية الدولية التى شكلها فيردينان ديليسبس بعد زيارتها لبرزخ السويس 1855م ، بناء على تقرير أعده المهندسان موجل ولينان بك كبيرا مهندسى الحكومة المصرية ، بإمكانية شق القناة ولا خوف من منسوب المياه لأن البحرين المتوسط والأحمر متساويين فى المنسوب ولا خوف من طمى النيل لأن الشاطئ رملى . وكان لينان سنة 1844م قد وضع مشروعا لشق قناة مستقيمة بين البحرين لأنه أسرع و أقل تكلفة وأكثر ملائمة لأوروبا واحتياجات تجارتها ، فالقناة المستقيمة تسمح بالمرور السريع للسفن ذات الحمولات الكبيرة بين السويس والفرما، مقترحا إقامة بروز عند مدخل القناة على البحر المتوسط لحمايتها من رواسب النيل التى تلقى على ساحل البحر .
حينئذ أصدر سعيد باشا فرمان الإمتياز الثانى وكان ضمن بنوده ” أن حفر القناة يكون من ميناء السويس إلى البحر المتوسط عند نقطة خليج الفرما ، يصير تحديدها فى المشروعات النهائية “. وبدأت اللجنة فى تحديد الإحتياجات اللازمة للحفر وموقع الميناء والفنار والورش وكافة المنشآت المطلوبة .
بعد تحديد مسار القناة ، أصبح موقع المدينة الجديدة يحتل جزء كبير من بحيرة المنزلة وجزء بسيط قريبا من ساحل البحر المتوسط ، فكانت المنطقة قاحلة لم يكن بها سوى” قرية الجميل” يقطنها بضع عشرات يعملون بصيد السمك ، تبعد هذه القرية عن بورسعيد مسافة 9 كيلومترات . وعلى الجزء القريب من ساحل البحر تم بناء خمسة مساكن خشبية لمزاولى الأعمال ، كما أنشئ جهاز بخارى لتقطير مياة البحر وتحليتها ، وفنار خشبى للإنارة وفرن للخبز ، ثم أنشئت ثلاثة مساكن خشبية لإقامة مأمورى الأشغال . هكذا بدأت بورسعيد .
تم تقسيم العمل فى مشروع القناة لثلاثة أقسام يبدأ الأول من بورسعيد إلى القنطرة والثانى من القنطرة وحتى البحيرات المرة ومنها يبدأ القسم الأخير إلى الموقع الذى أقيمت عليه مدينة بور توفيق فيما بعد .
بعد تحديد موقع المدينة الجديدة على مدخل القناة تم رفع العلم المصرى على هذه المنطقة ، وتولى “لاروش” الإشراف عليه ومعه عدد من المستخدمين والعمال الأوروبيين وحوالى 100 عامل من دمياط ، حيث بدأت شركة القناة فى بناء العشش لإقامة العمال بقرية العرب وتعيين إمام لمسجد القرية وكان مبنيا من الخشب ، وبدأت تصل إلى منطقة القناة أفواج من العمال المصريين والأجانب فكان معظمهم من اليونان ( بعد تعديل إمتياز حفر القناة ومنها إلغاء السخرة فى عهد الخديو إسماعيل بلغ عدد العمال الأجانب 7 آلاف عامل منهم 5 آلاف يونانى فضل معظمهم البقاء فى بورسعيد بعد إنتهاء الحفر وسكنوا فى حى العرب ) كما تم حفر قناة صغيرة (القنال الداخلى ) لتصل إلى منشآت بورسعيد وبحيرة المنزلة ومن خلالها تنقل مياة الشرب والمواد الغذائية بواسطة المراكب إلى بورسعيد .
وبعد عام جاءت كراكتان لحفر الطين من قاع المياه وكان يستخدم لردم الأماكن المنخفضة على أن يتم إنشاء مساكن للعاملين والباعة على الصالح منها فكلما ظهرت أرض تبنى عليها مساكن حتى أصبح ببورسعيد سنة 1863م 150 بيتا و150 عشة ومستشفى وورش وكنيسة للكاثوليك وأخرى لليونان ومسجد للمسلمين وكان يسمى جامع قرية العرب ، واستمرت المدينة فى الإتساع ، وانتشر العمال والصناع منها وحتى الإسماعيلية جنوبا على بعد 75 كيلومترا ، وفى أواخر 1869م وقت إفتتاح القناة بلغ سكان بورسعيد نحو 10 آلاف نسمة وسكنها قناصل ووكلاء قناصل من كافة دول العالم .
تولت شركة “إخوان دسو” بناء الميناء وكانت تصل إليها المواد اللازمة من حديد ونحاس وأخشاب ومأكولات من خلال مراكب من أوروبا وأيضا الملبوسات وبعض السلع لتباع للعاملين إلى جانب البضائع المصرية التى تصل من المنزلة والمطرية ودمياط ورشيد .
حين أوشك العمل فى قناة السويس على الانتهاء وأصبحت جاهزة لاستقبال البواخر من مختلف دول العالم ، كان من الضرورى إنارة ساحل البحر المتوسط فيما بين الإسكندرية وبورسعيد ، فحدد مسؤلو الشركة من البحارة والمهندسين أربع نقاط على الساحل لإقامة فنارات لهداية السفن القادمة للقناة ، فقرر الخديو إسماعيل أن تتحمل الحكومة المصرية تكاليف إنشاء هذه الفنارات ، الأول على ساحل رشيد والثانى فى البرلس على الرأس الخارج فى البحر والثالث بقرب عزبة البرج عند مصب فرع دمياط والرابع فى بورسعيد بالقرب من بداية القناة غربا .
تساوت الفنارات الأربع فى الإرتفاع ، وتغطى إضاءة كل فنار عشرين ميلا فى البحر بشكل متواصل ، لهداية السفن من الإسكندرية إلى بورسعيد ، وحتى لا يحدث التباس فى تحديد مواقع هذه الفنارات ، جعل لكل منها وضع يخصه ، فتكون إضاءة فنار رشيد متحركة بدوران بطئ بألوان بين الأبيض والأحمر تتغير كل 10 ثوان ، وتكون إضاءة فنار البرلس ثابتة بلون واحد ويضئ كل خمس ثوات ، وتكون إضاءة فنار دمياط متحركة بنور أبيض يظهر ويختفى كل دقيقة ، أما فنار بورسعيد فتكون إضاءته مرتعشة كهربائية له كل 3 ثوان غمضة وانفتاح وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها الكهرباء والعدسات الحديثة فى إضاءة الفنارات .
حفرت قناة السويس بطول 164 كيلو مترا خلال عشر سنوات ، تم إفتتاحها 1869م واكبها إنشاء مدينتى بورسعيد والإسماعيلية ، لتبدأ معها صفحة جديدة من تارخ مصر مليئة بالمتاعب والحروب ، فكانت القناة سببا رئيسيا للاحتلال البريطانى 1882م والعدوان الثلاثى 1956م ، لما لها من موقع إستراتيجى مهم ،وبعد نكسة يونيو 1967م أغلقت القناة تسع سنوات بسبب إحتلال إسرائيل لسيناء كلها ، وأعيد إفتتاحها فى 1975م بعد إنتصارات أكتوبر العظيم سنة 1973م ، وتشاء الأقدار أن تتبدل الأحوال وتصبح قناة السويس مصدرا رئيسيا من مصادر دخل مصر القومى .
وبعدكل هذا التارخ الطويل تتأكد مقوله “التاريخ يعيد نفسه” ، فبوابة مصر الشرقية كانت وستظل مصدر التهديد الرئيسى لمصر فحمايتها هو حماية الأمن القومى لمصر الحبيبة .

زر الذهاب إلى الأعلى